تلفّ أوشحة التّقصير عدالة الإنسان حين لا تطال مصداقيّتها سوى الظّواهر من الأمور، ويخفى عليها الكثير من البواطن التي هي أشبه بخلايا سرطان تفتك بعظام عظيم القضايا، ولا أحد يتمكّن من حقنها بالأمصال الكيماويّة للقضاء عليها؛ لأنّ أجهزة الفحص والتّشخيص لا تطالها، ولا تدري بها إلّا الصّدور الحاقدة، والنّفسيّات الشّاردة في وعورة تخطيطاتها التي تبغي إلقاء غيرها في قعر الهاوية؛ كي تظلّ رغباتها الجامحة في السّيطرة هي السّائدة والسّائرة في دروب التّدمير؛ لإشباع شهوة الافتراس لكلّ ما تبغيه.
يعيش البعض وأفعى الحقد في داخله تنفث سمّها، وتغرس أنيابها فيمن حولها، وتتناسل راغبة في القضاء على كلّ الأجناس إلّا جنسها. فمثل هؤلاء لا يهنأ لهم بال إن داس غيرهم عتبات النّجاح، أو رفرف لواؤهم في سماء الرّفعة أو غنّت لهم الأيّام مواويل النّصر وإحراز الأهداف… فتراهم يتقرّبون منهم زلفى، ويدعون عليهم بزوال نعمائهم خلسة، يرسمون الابتسامات على وجوههم حين لقياهم تودّدا، ويسطرون الغضب على قلوبهم حين مغادرتهم تذمّرا…
تتوطّد روابط الصّداقة بين اثنين ، فتغدَق المشاعر بالأرطال، ولا يُعرف حدّ لسطوة العواطف والفكر هذه؛ حتّى يبيتَ كلّ واحد في دائرة وفلك الآخر، ووعاءً ينضح فيه كلّ ما عنّ على الخاطر. ويصل الأمر إلى خشية أحدهما من بُعد توأم روحه كي لا يخسر ذاته… تتوالى الأيّام، وتنقلب الأحوال ليرتقي أحدهما سلّما للنّجاح أو الشّهرة، فتذهل عيون الصّديق النّاظر إلى من أبقاه حظّه على قارعة الطّريق الذي بدأاه معا، وهو يتلوّى لاعنا وشاتما حظّه مقارنة مع ندّه. ويتطوّر الأمر لبثّ إشعاعات الحسد والغيرة صوب من كان الرّوضة التي يجلس في أفيائها وقت الهاجرة، ناسيا ما تناولاه من طيب الثّمار، ويدخل دائرة يضيق محيطها بتساؤلات واهية: لمَ هو ولست أنا؟! ولا يخطر بباله أنّ هناك قوى علويّة تدير الدّفّة، وتقرر عيش الإنسان في رخاء أو شدّة، وأمورا غيبيّة لا يعلمها إلّا ربّ البريّة.
تلفّ عباءات الفضيلة أجساد من يدّعون أنّهم الفضلاء، ولكنّهم لأسمالِ الرّذيلة عبيدٌ في الخفاء، حين يشتهون أجساد من حرّمت عليهم من المحصنات اللاتي يرغبون بهنّ في أحضانهم إماء…
يحسبون ألف حساب لنظرات من يعرفونهم من الأهل والخلّان، فيمسكون بحبال المحبّة والإغداق لسموّ السّلوكيّات. ويتمسّكون بمناصبهم الاجتماعيّة التي ارتقوا إليها، يعضّون عليها بالنّواجذ، ويعتبرون أنفسهم في صروح العزّة والإعزاز، ويسيرون مجرجرين لأذيال العفّة، والنّاس من ورائهم تبغي أن تحظى ببركة اللّمسة. وبعيدا عن العيون يزاولون أعمال البذاءة والخسّة؛ من امتهان للقيم الأخلاقيّة، واستهزاء بالشّيم الاجتماعيّة، وضرب لمصالح الآخرين ممّن كانوا في منزلة أدنى؛ لتبقى مصالحهم هي الأعلى. وقد يطرقون أبوابا لا يطرقها إلّا الأراذل، ويصرّون على الاحتفاظ بمكانة بين الأكابر.
يهيم الأزواج عشقا بأزواجهم متوّجين أحاديثهم بشهد كلام مقدَّما بقوارير مزيّنة بزخرف المشاعر فيستسيغ طعمه الطّرف الآخر، ويتمنّى إبقاء حلاوته على لسانه ليبعد عنه طعم ما يهاجم البال من همّ وكدر…
وما إن تلمح عيونهم جمال الحسان حتّى ينسوا ما سال منهم من معسول الكلام، بصمةً على ميثاق الحبّ لمن اختاروها شريكة في السّرّاء والضّرّاء… وأحيانا يطلقون الأعنّة لأفراس قلوبهم لتطارد ربّات الجمال وساحرات الألباب .
ولا يقتصر هذا الأمر على الرَّبع من الرّجال، بل يتعدّاه إلى النّساء. فمنهنّ الماكرات اللواتي يصطدن بشباكهنّ ما طاب لهنّ من صيد… توزّع إحداهنّ جميل الأحاسيس بالأرطال، وتُشعر كلّ من فاز بقلبها أنْ قد أزهرت له حدائق الأيّام… وتظلّ لسلسلة المكائد ضاغطة عليها بإحكام، ومتلاعبة بالقلوب مرتكبة جرائم الكذب والخيانة والنّفاق…وتداهن وتذرف من الدّمع ما يعبّئ جرارا، حين يفلت أحدهم من صنّارتها وكأنّه الوحيد المحتلّ لقلبها!
ومنهنّ من تحبّ رجلا، وتتزوّج من آخر. تعاشر الزّوج وتهيم في صحراء العشيق السّابق، متأرجحة بين أشواط أرجوحة الخيال وسرير الواقع الذي تنتهك حرمته بالتّحليق في سماء الأحلام.
تتزيّى نسوةٌ باللّطافة وتتباهى بحبّ الخير، وربط أواصره بين أفراد العائلات متظاهرة بالتّسامي والدّعوة إلى التّعاون والتّآخي. وفي الخفاء تنخر أرَضَة أفكارها وشعورها، أوتاد الخير الرّابطة للمجموعة وقاطعة خيط الوداد بين الأقرباء إلّا من الجزء الذي يخصّها وعائلتها المصغّرة، من زوج وأولاد، فإنّها تؤزّره لتظلّ أسرتها برباط الوفاق، وبنهر من الحبّ دفّاق تروي منه شجرات بستانها، وإن جفّت مياه بساتين المحيطين، واشتعلت النّيران في الهشيم، وبات الجميع على رماد عيش جسيم.
يتباهى الأهل في أحاديث النّهار بالذّرّية، ولا يظهرون سوى بسط الأيادي كلّ البسط في التّعامل الودود، والسّعي الدّؤوب وراء ما فيه الخير للأبناء، ولكنّهم يغلّون أياديهم إلى الأعناق في التّمييز بين من يدّعون أنّهم قرّة أعين لهم … يميلون بقلوبهم ناحية أحد أبنائهم، ولا يتمكّنون من الإخفاء، وإذا ما سئلوا أجابوا بأنّ للقلب ما يريد، ولكنّهم يعملون جاهدين للإنصاف، ولا يفطنون أنّ ميل قلوبهم قد يجعل نيران الكراهية والغضب تأكل قلوب من لا يحظون بمكانة مثل أخيهم، فتنهش ذئبيّة إخوة يوسف قلوبهم حقدا عليهما. ومن الأهل من يبذل الغالي والنّفيس في سبيل الارتقاء بأحد الأبناء إلى أعلى درجات العلم، محتجّين بعدم الاستطاعة الماديّة لتحقيق طموحات ابن آخر. وهم بهذا يدقّون أسافين الكره والعداوة، فتفقس الحسرة حسراتٍ تأكل من وجبات أيّام المحروم؛ لتجعل سنوات عمره عطشى لماء أراد شربه من كوثر رغباته، ولم ينهل سوى الجفاف…
غيض من فيض زلّات وجرائم الخفاء التي تحدث على مسرح، خشباتُه ينخرها سوس الخداع والرّياء ويحتاج إلى ترميم وإعادة بناء. ويحتاج المسرحيّون البعيدون عن عين الضّمير وحساب الأنا، الصّحوة والمراقبة، وتتبّع العورات، ليس من أجل الموت همًّا، بل لحياة أكثر سلاما وأمنا!