تَحْتَدِمُ اللَّهْفَةُ بِنَارِ الْفُؤَادِ الوَامِقِ وَنُورُ الْوِدَادِ الْعَابِقِ بِأَرِيجِ هَمْسِكِ الصَّاخِبِ الصَّمْتِ، وِيَزْدَلِفُ الْحُضُورُ عَلَى وَجْنَةِ الْحُبُورِ حِينَ تَتَوَاثَبُ الـخَفَقَاتُ اللَاهِبَةُ فِي صَدْرِ اللَّـحَظَاتِ الْهَارِبَةِ مِنِّي إِلَى أُنْسِ عِطْرِكِ، وَيَرْتَشِفُ الـخَاطِرُ مِنْ شِفَاهِ الكَلِمَاتِ رِضَابَ مَعْنَى يَسِيلُ شَهْدًا كُلَّمَا هَمَسَ بِكِ أَوْ أَشَارَ إِلَيكِ. هِيَ رِحْلَةٌ مِنْ بَهِجَةٍ لَا تَنْتَهِي إلّا إِلَى مَدَاكِ، وَمُهْجَةٍ لَا تَشْتَهِي إلّا مِنْ جَنَاكِ، وَرُوحٍ أَعـْجَلَتْهَا الصَّبْوَةُ بِـخَمْرِ الْغِيَابِ وَشَغَفِ الْإِيَابِ وَسَطْوَةِ أَطْيَافِ الضَّوْءِ الحالِمِ فِي عوالِـمَ مِنْ رِضاِكِ.
وَمُنْذُ تَسَوَّرْتِ مِحْرَابَ صَمْتِي وَأَنَا أُلَـمْلِمُ مِنْ دَهَالِيزِ الْخَيَالِ حُرُوفَ شَوْقِي الشَّارِدَةَ، وَأَرْسُمُ عَلَى جَبِينِ الغَدِ الـخَجُولِ أُمْنِيَاتٍ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ المُسْتَحِيلِ إِلَّا كِالَّذِي بَيْنَ إقْبَالِكِ وَإِدْبَارِكِ، وَبَيْنَ إِثْرَائِكِ وَإِيثَارِكِ، وَبَيْنَ بَدْئِكِ وَمُنْتَهَاكِ. وَعَلَى حِينِ غِرَّةٍ مِنْ حَنِينٍ تَتَأَوَّلِينَ مِنِّي طِفْلًا فَتَتَأَوَّبِينَ لِي طِفْلَةً، فِي عَيْنِيِهَا فَرَاشَاتُ رَبِيعٍ يَعُودُ بِنَسِيمِ عُمْرٍ مَضَى سُدَى، وَدِفْءِ قَلْبٍ أَخْمَدَهُ البَرْدُ وَأَجْهَدُهُ الْوَأْدُ، وَحُلْمِ عُمْرٍ تَفَرَّسَ فِي عُيُونِ الصَّبْرِ يَبْحَثُ عَنْ نَبْضَةِ غَوْثٍ خَصِيبٍ وَوَمْضَةِ غَيْثٍ قَادِمٍ.
وَحْدكِ مَنْ يُطَرِّزُ عَبَاءةَ مُلْكِي مِنْ خُيُوطِ سَنَاكِ، وَمِنْ قَوَارِيرِ حُبِّكِ أَمْلَأُ أَبَارِيقَ حَرْفِي سُلافَةَ شِعْرٍ تُسْكِرُ وَبَلاغَةَ نَثْرٍ يُبْهِرُ. وَوَحْدكِ أَنْتِ مَنْ يَخْتَزِلُ كُلَّ المَعَانِي السَّامِقَاتِ فِي مَعْنَى فَرِيدٍ جَدِيدٍ أَكِيدٍ؛ يَتَهَجَّى حُرُوفَهُ مِنْ مُعْجَمِ قَوَافِيكِ، وَيَتَحَرَّى قُطُوفَهُ مِنْ فِرْدَوْسِ مَا فِيكِ. وَوَحْدكِ أَنْتِ صَوْلَجَانُ الْفَخْرِ فِي عَصْرِ كِسِيحٍ، وَشَهْرَزادُ الْحُسْنِ فِي زَمَنِ قَبِيحٍ. وَوَحْدكِ أَنْتِ سِفْرُ الرَّوَاءِ وَالْخُلُودِ؛ تَرْسُمِينَ فِيهِ مَلاَمِحَ مُهْجَتِي، وَتَكْتُبِينَ فِيهِ مَلاَحِمَ رِحَلْتِي، وَتُرْهِفِينَ فِيهِ عَذَارَى الْبُوحِ فِي مَشَاعِرَ تَلُمُّ فِي خَلاَيَا قَلْبِكِ وَعَلَى أَزَاهِيرِ رُوحِكِ فُلُولَ نَحْلِ عُمْرِي المُهَاجِرِ شَتَّتَهُ السَّأَمَ فِي كُهُوفِ غُرْبَةِ الأيَّامِ.
وَبَيْنَا تَغْتَسِلُ ضَفَائِرُ اللَّيْلِ فِي شُرْفَةِ الْقَمَرِ تَغْتَسِلُ مُقْلَةُ السُّهْدِ بِدَمْعَةِ الوَجْدِ وَلَوْعَةِ البُعْدِ تَتَجَرَّدُ مِنْ سِرْبَالِ وَقَارِهَا، تَتَّكِئُ عَلَى نَمَارِقِ مَطَرِي المُسَافِرِ فِي سَحَابِكِ، وَتَتَوَكِأُ عَلَى عَصَا الغَرَقِ فِي بُحُورِكِ الَّتِي تَمُوجُ بِاللَّيَالِي السَّاهِرَةِ تَعْزِفُ لَحْنَ الْأَمَلِ عَلَى قِيثَارَةِ الْوَفَاءِ. وَفِي غَفْلَةٍ مِنْ شُجُونِ الْبَيْنِ أَدُسُّنِي فِي جُفُونِ الْحُلْمِ المُمْتَدِّ مِنْ أَقْصَى مَدِينَةَ الشَّوْقِ إِلَى أعْلَى مَرَاتِبِ الْعِشْقِ؛ أَسَعَى وَفِي سِرَاجِ الدَّرْبِ ذُبالَةُ طَيْفٍ رَحِيمٍ، وَبَقايَا مِنْ تَبَارِيحِ حُزْنٍ قَدِيمٍ يَكَادُ يَلْوِيَ عَنَانَ الخَطْوَةِ وَيَفْصِمُ وَثِيقُ الحُظْوَةِ، لَكِنَّ مَا انْفَكَّ النَّبْضُ يَدْنُو – لَا يَأْلُو – إِلَى سِدْرَةٍ تُورِفُ عَلَى قَابٍ نَأْمَةٍ مِنْ هَوَاكِ.