حب السلطة داءٌ ما له دواء. لا يَسلم منه عظيم ولا حقير، ولا حاكم ولا محكوم. ولا ميْز سوى أن لكل إنسان سلطة على قدره، وهو في مملكته الآمر الناهي، أو هكذا يريد أن يوهِم نفسَه والآخرين. وكل صاحب مملكة يعمل على شاكلته.
أذْكر حين توجهت ذات صباح إلى مكان عملي الجديد إصرارَ حارس الأمن الواقف عند بوابة المؤسسة على مرافقتي إلى مكتب المدير. ما كان فعله دليلَ حب ولا لأنه خدوم، وإنما ليُشعِر نفسه أنه مهمّ، ولم أشأ أن أنغّص عليه نشوته فتركته يعيش الوهم. قدّمني إلى المدير ثم انصرف. وذات يوم بئيس رافقت شخصا إلى المستعجلات وهو بين الحياة والموت، وكان حارس الأمن الكلّ في الكلّ، ومع تهرب العاملين من مسؤولياتهم وغش ظاهر وتقاعس بائن، تركوا للحارس الحبل على الغارب. حتى إني وجدت عنده أرقام هواتف الأطباء كلهم، وقال لي مبديا رغبته في المساعدة: “لو احتجت رقم هاتف أي طبيب في أي اختصاص فلا تتردّد في مخاطبتي!”. ليس غريبا أن تتوجه إلى إدارة عمومية أو غير عمومية فيكون عليك أن تتفاهم أولا مع “الشاوش”، تفاهما ماديا أو معنويا. وفي القضاء مثلا ليس هناك غير التفاهمات المادية، و”الشواش” سُعاتُها المحنّكون.
السلطة لا تستلزم مؤسسات وزرابي مبثوثة وأرائك مصفوفة، ومواكب وحُراسا وكرسيا فخما يدور ذات اليمين وذات الشمال. أعرف شخصا مدمنا على المقهى، حين يتراءى له ماسح الأحذية يسارع إلى مناداته، ثم تَراه منشرح الصدر والماسحُ عند قدَمه قد عكف على مسح الحذاء. هو الآن شخص مهم لأن إنسانا مثله، لا يقلّ عنه إنسانية، أجبرته صروف الدهر أن يجلس عند أقدام المرضى النفسيين و”المعقَّدين”. وحين ينهي ارتشاف قهوته يَنقُد النادلَ قائلا: احتفظ بالباقي! تعظُّما لا سخاء.
ولا يعجز من لا يجد سلطة بين يديه أن يختلقها اختلاقا، ثم يُرضيه بعد ذلك أن يستلذ شيئا من الوهم المعنوي. قد تصادف شخصا يُغالي في مدح من يحسبهم عظماء، وربما حرص أن يُظهر أنّ له بهم صلة. فلا يكون مدحهم إلا مدحا لنفسه، وليُقنعك أنّ من يعرف “العظماء” لا جرَم عظيم. هكذا تحلّ سلطة وهمية محلّ سلطة واقعية، وإن كان كلاهما وهْما.
هي السلطة التي يعشقها الناس كبيرهم وصغيرهم، هي الروح التي تسري فلا تكاد ترى لها أثرا، والمرض الذي يقرف عيشتك في الجامعة والمسجد والشارع والحافلة والمقهى والمدرسة والشابكة والسوق والبيت ومكان العمل والوزارات والإدارات والأحزاب والنقابات…
هي الوظائف والواجبات عند العقلاء، والمغانم والفرص عند الحمقى!