لا تجمعني بأبي مسارات ودروب ومسالك في مناهج الحياة وفلسفات التعاطي معها ، وفي الغالب كانت رؤانا السياسية علي خلاف ، لكن تجمعني به التفاصيل ، وكنت أرقبه في صمت ولا أكثر الحديث لأحظى بالمزيد من رسم لوحات الحركة وردود الأفعال والجمل المنتقاة وأسلوب سيطرته في الأحاديث والحوارات ونفوذه وحضوره الطاغي وضحكاته المجلجلة ونبرات صوته وبراعته في التدرج الصوتي والأداء الحركي والمراوحة بين حركات اليدين وتعبيرات الوجه وتقطيباته وانبساطاته وبين ما يطرحه أثناء النقاش أو حتي المحادثة الهاتفية .
عالم التفاصيل عند أبي مليء بكنوز وابداعات، بصرف النظر عن موافقتي لأطروحاته أو أفكاره أو مواقفه الحياتية والسياسية من عدمه.
كنت – ولا زلت – حريصاً على القرب منه لأني عاشق لتفاصيله، ولشخصيته الثرية بتاريخها الاجتماعي والسياسي وتكوينها الثقافي بما لها وما عليها.
أحرص علي رؤيته في كامل أناقته ، وربما اعتراه الخجل في بعض المرات لامعاني النظر اليه واطالته في صمت ، وأحرص علي رؤيته وسماعه أثناء لقائه بأصدقائه أو أحد منهم ، أو وهو يحادث أحدهم هاتفياً ، خاصة اذا كان حديثاً في السياسة أو نقاشاً في الرؤي والأفكار ، لدرجة أنني كونت عنه سياسياً وفكرياً ملفاً كاملاً محفوظاً في ذهني ترقباً للحظة لم ولن تأتي أبداً ، فقد حرصنا سوياً ألا نتوسع معاً في هذا النقاش ولا أن نخوض فيه ، وكان بيننا اتفاق ضمني صامت ، فقد كان يفهمني جيداً وأفهمه أكثر مما يجب وهذا استدعي دبلوماسية متقنة ودقيقة للسير بالعلاقة بيننا الي بر الأمان ، مستمتعين بما فيها من بهجة وجمال ونضج وثراء غير محدود في التفاصيل .
وأحرص علي تتبع حركات جسده وطريقة مشيه ومشاغباته ولعبه الطريف مع الأطفال الصغار وطريقته في تناول الطعام وارتشافه الشاي بعد العشاء، ومشهده الأسطوري علي الأريكة في أوقات الاسترخاء، وعلي متابعة كل ما يتعلق به وبتاريخه وحضوره المكاني والزماني من تفاصيل، وما لمست يداه، والمساحات التي احتوته والفضاءات التي داعبت أنفاسه.
ولم أكن مغرماً بزراعة الأشجار والورود أمام البيت، لكني اليوم أسأل زوجتي هاتفياً وأنا في سفر بعيد جداً أول ما أسألها: هل رويت الأشجار بالماء! لأن أبي هو من زرعها وأحبها، وفي أوراقها أري تفاصيله وملامح وجهه وأناقته ويمتزج عطره في أنفي بأريج أزهارها.
هذا هو العيد الأول لي بدون تفاصيل أبي ونظراته وضحكاته وزياراته وطلته الأنيقة وحضوره السينمائي الطاغي ولعبه مع الأولاد والبنات وتلطفه معهم.
المشهد بدون تفاصيل لا قيمة له ، والعيد بدون هذه الشخصية الرائعة بلا طعم ولا بهجة ، حتي أزهاره وأشجاره التي زرعها بيديه حزينة كسيرة ، لذلك اجتهدت بعد العبادة والذكر في استقبال العيد باستدعاء التفاصيل ونحتها من جديد علي تفاصيل المكان ، في الحديقة وفي وقفته في الشرفة بجوار أمي ، وفي الانصات لنبرات صوته التي تشبهها نبراتي ، وفي الاحتفاء بالصحف التي بها مقالاتي ، وفي أسلوب تناوله وقراءته للجريدة وفي غفواته أمام التلفاز وهو يتابع نشرات الأخبار ، وفي استيقاظه مبكراً متحمساً نشيطاً الي العمل حتي وهو مريض ، وفي خلواته في زاوية غرفته يتلو القرآن ويقرأ الأذكار ، وفي فرحته بالأطفال وحلمه وصبره علي استغلالهم لتضاريس جسده وساقيه وكرشه وتوظيفها كملاهي ومراجيح ، وفي رصانته وقوته ورجولته وصوته وصمته وسمته المليح .
أعشق هذه التفاصيل ولأنني أشبهها، لدرجة أنني أعيشها بدقة في كل نبرة وحركة، فلم أشعر بفراق أبي لأنه معي بتفاصيله، أتحرك حركاته وأحاول تقليد أناقته وأرتشف رشفاته وأسترخي بطريقته وأروي شجيراته وأسمع نبرات صوته في صوتي.
مرَ نزار بتجربة مماثلة، ووصف بمن قال له ” مات أبوك ” بالمضللين، فهو – مثلي – لا يموت أبي ، ففي البيت منه روائح رب – بالذكر والتلاوة والقرآن ، وذكري نبي ؛ لأنها لا تنسي ولا تكاد تنسي ، وكيف تنسي وأنا هو وهو أنا ؟
يعيش نزار في التفاصيل ويحياها بتفاصيلها؛ فهو حي يتنفس، جريدته تقرأ ودخان سيجارته يتصاعد وفنجانه ونظارتاه.
ووجوده في الحياة لا يحتاج لإجابة ودليل ، فكل شيء يدل عليه ويحكي عنه ويلعب بطولته ويتقمص شخصيته ويتشكل بملامحه ، فهو حاضر يتنفس ويضحك ويمشي ويشع نوره في كل هذه التفاصيل .
نزار أيضاً يشبه أباه مثلي في التفاصيل ” حتي تهيأ للناس أني أبي.. أشبهك حتي بنبرة صوتي فكيف ذهبت.. ولا زلت بي؟ ”
سؤال أسأله وصوتي يتردد بنبرته وأنا واقف أمام شجيراته: فكيف ذهبت .. ولا زلت بي؟
العيد لم يأت بدونه، ولن يأتي أي شئ بدونه، فهو حاضر في انتظار الأشياء والمفاجآت وفي استقبالها، وإذا غاب قليلاً عن عيوننا فهو في سفر أو رحلة سريعة وسيعود لأشيائه وأهله وناسه وأحفاده وتفاصيله وشجيراته.. ” فتحنا لتموز أبوابنا
ففي الصيف لا بد يأتي أبي”
ونحن علي انتظار .
يقول نزار “
أمات أبوك ؟
ضلالٌ ! أنا لا يموت أبي.
ففي البيت منه
روائح ربٍ.. وذكري نبي
هنا ركنه.. تلك أشياؤه
تفتق عن ألف غصنٍ صبي
جريدته. تبغه. متكاه
كأن أبي – بعد – لم يذهب
وصحن الرماد.. وفنجانه
علي حاله.. بعد لم يشرب
ونظارتاه.. أيسلو الزجاج
عيوناً أشف من المغرب؟
بقاياه، في الحجرات الفساح
بقايا النور علي الملعب
أجول الزوايا عليه، فحيث
أمر .. أمر علي معشب
أشد يديه.. أميل عليه
أصلي علي صدره المتعب
أبي.. لم يزل بيننا، والحديث
حديث الكؤوس علي المشرب
يسامرنا.. فالدوالي الحبالي
توالد من ثغره الطيب..
أبي خبراً كان من جنةٍ
ومعني من الأرحب الأرحب..
وعينا أبي.. ملجأٌ للنجوم
فهل يذكر الشرق عيني أبي؟
بذاكرة الصيف من والدي
كرومٌ، وذاكرة الكوكب..
*
أبي يا أبي .. إن تاريخ طيبٍ
وراءك يمشي، فلا تعتب..
علي اسمك نمضي، فمن طيبٍ
شهي المجاني، إلي أطيب
حملتك في صحو عيني.. حتي
تهيأ للناس أني أبي..
أشيلك حتي بنبرة صوتي
فكيف ذهبت.. ولا زلت بي؟
*
إذا فلة الدار أعطت لدينا
ففي البيت ألف فمٍ مذهب
فتحنا لتموز أبوابنا
ففي الصيف لا بد يأتي أبي ..