تتحرك منحدرة من فوق مرتبتها، تجرّ رجلها الفاقدة الحياة، وبيدها تضبطها كلما زحفت. صرير باب الغرفة المكتوم، درجتا سلم حجري تواجهها، وبصيص من ضوء البكور، تطالع الملح المتكلس على الحجر والجدران. تلتقط أنفاسها، تحبو، الدرجة الأولى، ثم الثانية، رجلها معلقة لأعلى، تسحبها بتأوه خافت. تتشبث بثنيات الباب الخارجي للبيت، تحرّك المزلاج.
أطلّ رأسها، البكور، زقزقة العصافير، الأرجل تدب في الشارع. يهدمون بيت ” نبوية أم شعبان “، كانت هي وكل إخوتها، بنسائهم وعيالهم..، الأطلال تنحسر عن مساحة صغيرة. كيف كان تجمعهم تلك الجدران؟ منذ أن ماتت نبوية، تفككوا، وصفّى الصغير البيت لنفسه.
عمارة الحاج ” جلال “، خمسة أو ستة أدوار..، ترفع بصرها تعدها..، سبحان العاطي، كان مرمطونًا عند المرحوم زوجي.
من الشرفة، تقول ” أم سيد “:
– شوفي الحاجة ” تحيات “، اشتاقت للشارع.
ترد ابنتها:
– أسمع عنها..
– مريضة منذ سنين، وحبستها ابنتها ” أحلام ” في غرفة تحت السلم.
من بُعدٍ، طالعتها إحداهن، وكانت تسير في الشارع، حاملة قفة خضار:
– شافت أيامًا مع زوجها المعلم ” محي “، عزًا وذهبًا.
رفيقتها، تنظر للرأس البارز:
– دوام الحال من …….
– أنجبتْ له خمسة رجال وبنتًا واحدة.
– وأين هم؟
– كل واحد تسيّره امرأته.
الرأس البارز يستند للباب، أنهكه التطلع، بعدما ارتفعت العمارات حاجبة أشعة الشمس، “الحارة الضيقة نفق ملتوٍ، يمتليء بالدراجات البخارية المركونة أمام الأبواب “.
كنت أجلس كل ليلة على العتبة قدام بيتي، وبجواري قلة المياه التي يفوح منها النعناع، وكوب الشاي، وأنادي على جاراتي، ونسمر باللب والذرة المشوية …، لا مكان لي بين هذه الأعمدة والعمارات. يتراجع الرأس البارز.
الجارة ثانية لابنتها:
-” أحلام ” بنت ” تحيات “، على كل بياضها وشعرها ” السايح”، ركنت جانب أمها بعد زوجين.
– والسبب؟
– عقلها خفيف، وفلوس أبيها دلّعتها.
تردف:
– وزوجها الأول أخذ العيّلين منها. فعاشت تناكف أمها.
تلتقط أنفاسها، كأن درجتي السلم بناية عالية، رجلها ثقيلة كالدهر وهي تسحبها. ترتخي الأصابع، تتنسم هواءً من فرجة الباب، ” تحمل النسمات رائحة الهدم “.
ربما تكون الذكرى أريجًا، يصاحبني في أويقات الزمن المتسحبة، وربما تكون المرتبة القطنية ألين من العمارات المتطاولة.
صوت ” أحلام “:
– أين أنتِ يا وليّة؟ حبوتِ ثانيةً؟!