اعتاد الطفل منذ تلك الحادثة أن يخاف من المرور أمام قسم الشرطة (البندر) حد الرعب. الأمر الذي يدفعه كلما اقترب من رصيف القسم أن يعبر الشارع حتى لا يمر أمام البوابة الكالحة التي يحرسها عسكري شرطة مسكين. لا يذكر مَنْ الذي حدَّثه عن العدو الصهيوني، فلم يكن سوى طفل في سن الروضة، ولم يكن يتلَّقى من التعليم المدرسي سوى سور جزء عمّ، ومبادئ القراءة والحساب.
لا يظن أنَّ أحد والديه حدَّثه قبل اليوم عن هذا العدو، فالأبوان كانا ولا بدَّ منكسرَيْن من جرَّاء الذي كان في يونيو قبل أن يولد بأقلّ من عام. ورغم ذلك يدرك أنَّ لصوت الطيران المستمر في أزيزه فوق المدرسة معنى مختلفًا هذه الظهيرة. في طريق عودته إلى البيت سمع صاحب محل الألبان يتحدَّث مع جاره النجَّار بصوت مرتفع عن حرب ونصر. يتذكَّر أن أباه ظلَّل كل النوافذ المطلة على الشارع بورق أصفر معتم، وأنَّ الأضواء كانت تُطفأ مبكِّرًا، وأنَّ دوريات تجوب الشارع ليلا تدعو الأهالي إلى إطفاء الأنوار.
لم يكن سوى تلفاز يعمل ساعتين في إحدى الليالي ويتعطَّل ثلاثة أو أربعة أيام، لا بدّ أن أباه يحصل على الأخبار من المذياع الذي يتكلم دون أن يعي الطفل منها الكثير. ولا بد أنه يقرأ صحفًا في العمل لا يأتي بها أبدًا إلى المنزل لضيق ذات اليد. العيد في هذا العام جاء مختلفًا سعادة حقيقية تعمّ الوجوه، وأغانٍ وطنية تنبعث من كلّ مذياع في الشوارع والطرقات.
الطائرة التي أسقطتها البنادق العتيقة للفلاحين في أقرب قرية من مدينته، جاءوا بها إلى الميدان الكبير. الشعب في الشارع يحتفل بإسقاطها كدليل على النصر. حتى هو زار الميدان خلسة ذات ليلة وتطلَّع إليها في احتقار وإلى الأبطال حولها بفخر. زي جندي الشرطة لا يختلف كثيرًا عن زي جندي الجيش، بالكاد يميِّز ذو السنوات الخمس بينهما. لكنه يرتجف من إطلالة الأول، وتنبسط أساريره فيرسل قبلة في الهواء كلّما ظهر بطل من أبطال الحرب.
سيحدِّثونه لاحقًا عن السلام. لكن رمضان العبور يظل محفورًا في الذاكرة، ونصر أكتوبر ساريًا في الشرايين، يتغذَّى عليه كيانه النامي. سيسمع فيما بعد عن تحريك لا تحرير، وعن صفقات عُقدت ومُرِّرت وعن أبطال تم نفيهم، وآخرين قفزوا فوق النصر. لن يصدِّق ذو السنوات الخمس شيئًا من كل هذا العبث، فذاكرته توقَّفت عند تلك القُبلة المرسلَة من شفتيه في الهواء إلى جندي مصري مجهول مع تعظيم سلام!!