أدبقصة

التحليق إلى الأعلى

ارتمى وسط سريره في ساعة متأخرة من الليل، استلقى على ظهره. الجدران صامتة، الأشياء تتهامس في ما بينها. رياح باردة تدفع بلطف ستارة النافذة المفتوحة عن الجدار، تحمل أسرار الكون الغامض، تتلاعب بشعيرات رأسه الطائشة، تمر خلسة فوق جسمه، تتحلل في صمت بين زوايا الغرفة.
هرب النوم عن جفنيه، بقي شاخصا ببصره مدة من الزمن، يقرأ سقف غرفته وأنفاسه تتصاعد بانتظام. ضاقت نفسه داخل جوفه، خرجت من جسمه تتنفس الصعداء، ابتعدت، تحررت، تاهت. مسافات الأمكنة والأزمنة تطوى وتتباعد في مخيلته. استنفر كل ذكرياته، قفزت بين عينيه تباعا وخلاصة المحـن والأزمات لا تفارق ذهنه، تمنى لو أقبرها في عمق تجاويف ذاكرته.

ينام على جنبه، ينزعج. يستلقي على ظهره، يستولي عليه الهذيان. ينبطح على بطنه، يتذكر ما جرح في الماضي والحاضر. بصعوبة غفا، نام نومة المكروب، أحلام مزعجة تمر تباعا. رأى شبحا يحدق في جسمه الممتد، يتحسس غطاءه، بعصا قصيرة وغليظة ينقر رأسه. أطبق الخوف على قلبه، حاصر حركاته، لم يترك لعينيه فرصة للتحقق منه. تصاعدت أنفاسه وهي تخنق أفكاره. انقض الشبح عليه كحيوان مفترس، شده من ناصيته، سحبه خارج غرفته. اختفى الشبح …

من بعيد حمل الريح صوتا غريبا، الصوت يشك طبلة أذنه، يهزها، يحاول اختراقها بكل إلحاح، يدعوه الصوت للصعود إلى قمة جبل مجاور لمنزله، على ضوء القمر مد عينيه إلى العلو وقال:
ـــــ أيها الجبل، أريد أن أصل إلى الأعلى، أشار بإبهامه، إلى هناك! لي رغبة أن أنظر إليهم وهم في الأسفل، لكني أخاف أن تغلق أبوابك في وجهي.
مدد عنقه نحو الأفق، وجد النهار قد انسلخ من الليل بساعات، بخفة صعد الجبل كأن جنا تخطفه. ولما استوى على قمته، فحص المكان بعينيه، لاحق الغيوم المارة فوق رأسه. وجف قلبه، اشتد به الخوف والتوجس. أحس زهوان السهراجي بوكزات في جسمه، كان ظله يخزه بعود طويل، انتفض وصاح بأعلى صوته، امتد الصوت في اللانهائي. قلقت الطيور في أعشاشها، جفلت المواشي في الحظائر، هرت الكلاب، تجاوبت في نباحها. استيقظ سكان القرية، خرجوا من بيوتهم، أشاروا بأيديهم، استغربوا، تبادلوا النظرات، قال أحدهم: من يكون؟ رد عليه آخر: إنه هو .. ذاك!

بصعوبة يرى أجسامهم، رآهم كأشباح، كأقزام، كأرقام بشرية فائضة. إنهم يأكلون ويشربون من أجل الشبع، ينامون، ويستيقظون على الفتات، مرر نظراته على بيوتهم، وقال: أنتم هناك في الأسفل، وأنا هنا..

أسقطوا عيونهم على الأرض ولم ينبسوا بكلمة، تفرقوا في صمت، تسللوا خلسة إلى منازلهم الواحد بعد الآخر.
جال بعينيه بين السهول والهضاب المحيطة بالجبل، رفع يده اليمنى ليقيس سرعة الريح، في اعتزاز قال:
ـــــ أيها الجبل، الآن، سوف أطلب ارتفاعاً أكثر.
على حين غرة، غلفه سحاب أبيض، اهتز الجبل من تحت قدميه، أصابه الدوار. تدحرج نحو الأسفل والأحجار تتبعه كأنها جمالات صفر..

استيقظ مذعورا، عادت نفسه إلى جسمه، كان ظله يرتدي ثوبا أبيض وهو يتحسس وجهه، خديه، شعره … وجد زهوان نفسه خارج سريره. رفع عينيه، كانت زوجته تجذبه من ناصيته نحو الأعلى وهي تشهر في وجهه استدعاءً من المحكمة.

اظهر المزيد

تعليق واحد

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى