أدبنثر

الليل الطويل

كثيفة تلك الغيمات، والشمس لا تتوارى عن مد أصابع الدفء إلى شجري. قلّمت بعض يباس من رأس العتمة فاخضوضر فيها الفجر.
هنا تنساب النشوة في رئة الحياة. هنا أذان المعراج الساحر حيث تزدلف الكواكب الساهرة لتؤنس التماع المتعة في عين الأرض. هنا خرير انبجاس الماء وبيادر وبذار حصاد القمح والمواويل تعلو هامة شجري إلى حيث لا تطاله يد.
وفي هدأة الليل ارتعشت بين كفيّ أنامل المستقبل. يسكنني طيف تهدج بغناء سقى جذعي من ريق انتماء.
أضع اتفاقية بحكمة منيرفا وأجلس على كرسي وجودي وأُجيد الرقص في حلبة إدمان أجدادي. أُمشط شعري بنجوم الفضة، وأطبع على شفاه القدر قبلةَ نحلةٍ للزهر تؤجج بدمائي عصفٍ احتدم مع انصهارٍ من عشقي.
نوعام .. في دوحة حلمي ..
ويسيل من ثغرِه شهدُ اقترافِه تخوم النحل ..
أطحن بنواجذَ الشوقِ ملحَ جسدي..
إني أعشقكَ يا كياني!
هدأت البلابل على غصن البراعم، وغفتْ سنابلُ الحقول العسجديةِ تحت حصادِ الغروب، وباقةُ الوردِ التي سقطت من يدي عند اللقاء أغمضت أهدابَها خلفَ أبواب الضوء فسادت العتمة في عيون الفنار ونام الليلُ الطويل ولم يلح بعد الهزيع. البحرُ هدّأ من روع الموج كي يرقصَ على عزف أنفاسِ نوعام المبهمة التي دوزنتها هدأةُ نبضِهِ العاري على سريري؛ فلتغطَّ في نعاسك الحذر!
بيني وبينك لا غطاءَ يحجب لونَ الدرب. بيننا ليس إلا هدير انفلق. نام الهدوءُ واتقدت الرؤيا، استحوذت بزندِك المدعومِ وبصمتِ العتمةِ على الصدى المخنوق. صرير ُ الوعدِ يطفئُ مزاميرَ الأدواح المعزولةِ عن الغناء.
نمْ يا نوعام فقد ولج رمحك الملطخ ببسملات البيع بين فستاني الفضيّ وبين انهزامك اللطروني وباب الواد. نمت يا نوعام في هديرِ الخيل حين جعلت الراياتِ فِراشاً لليلةِ العرس التي تمت في حفل مدريد نم يا نوعام فالصهيل خبا.

هدأت جذوة نيراني بالماء المسكر وما خبت فرائس الأمل. لي مع أنفاسي مآرب أخرى أتوكأ عليها أجمع طيور الهواء في رئتي وأطلقها في حديقة رمادي تغرد الشرر.
‎أنمضي معا، ‎فأصبح دمك القاني على ديباجة قلبِك المرتجف؟

أنمضي معاً؟
‎فأُزهرُ على غصونِك التي نمت على شجرة انتباذك. ‎وأكون وشاحا من النعناع يواري سوءة تبددك. ‎وتكون أنت برزخا أشاهده على قنوات تعثُّرك، وأرى كيف وجودي أذهلك ومن ثم ألجمك.

تعطلتْ يا نوعام بوصلةُ الدرب فالحقيقة كالضَّوء عندما تهرب من بين براثن منفاي اليَّ في داخل شموسي.
اجترحتْ لي يا نوعام مياسم الضَّنى في إعدادات العتمة المقترفة من تحت طاولة جلوسنا. أسراب مهاجرة تبني لها وطناً في ألطاف كياني الملفعة أثداؤه بالرحيل لتغدق على المارين والمتشردين، ويدقع العجف على سنبلاتٍ تمطى عليها سحاب أعمى. أسرابٌ تَنَفَسَتْ بخور داري من بوتقة انكساراتي، ونكسة امتشقت ستة دارت في عرين أشجاري وأصابت درة قلبي تمخضت عن ثلاثة لاءات مع وقف التنفيذ.
ثارت براكيني بحمم لم تركد. أخلعُ خطايَ من غيهب الجب، تلوذ اليَّ من تأتأة ضياعٍ داخلَ عنواني، وأنتظر موعد الرقص الحتمي ‎يتضوع عطرا امتدَّ على ضلع النار رذاذا من الغيم الكثيف هزّ بحيرةِ البجع فرقصتْ تحياتُ موعد الولوج إلى تحت ذقن الحق. وفي لحظة عناق لبرج وجودي العاجي تهاجرُ من دمي أجنحةٌ بلّلتها عواصفُ الشتاءِ القاسي لينبتْ في الغيبِ ربيعا يجذب رحيل الليل الطويل.
وأقشر فنجان الصباح وقد ترنم الورد ضاحكا من ضوءٍ استثنائي البهاء شق درب الأمل في عبوره الطافح بالرجولة وهو يفرد تمردا بعنفوانه الملائكي.
أفارق حضن أمي.
أمي .. يا زهر اللوز الراهج! في نبضي دراقة حبٍ ناضج تقطر الشهد حين قرأت جحيم الحب في عينيه. جلدتني أشواك الورد الذي يقض مضجع نومي. أعد لي هدوئي بوداعة جسدي ..
قال: سأعود في الربيع القادم .. سأعود عندما ينتهي الليل الطويل.
ستعود يا مهجة ميلادي؟
وسيزهر ياسمين بلادي؟
ويعود الشجر الى جذره الشادي؟
كيف يا حبيبي والقفار سحيقة ولا أرى في الأفق طيورا فهل أنت وحيد؟
طويل هذا الشتاء..
منذ الأزل تراود الغيمات بحيرة البجع وتهز تاريخاً يعيد صدى الآهات على جراحات الحاضر. أتيتَ يا حبيبي طهرا يتوضأ منه الضوء. أتيت تضمد وتيني المجروح بدمعك الصادق، ونثرت بيلسانا في رحاب روحي. أتيت من بين خناجر إخوتك وصرخات اجدادك.
أنا وأنت .. حلم يذرفه التأويل من فناجين العرافين. أنا هو .. فهل عثرت عليك؟ ويغتسل بالندى كرذاذ النور يعيد حبيبي أزرار الغابة إلى رعشة النخل ويعلق خصلات القمر على نافذتي.
أنا وأنت بسيمات في حجرةٍ خلعوا سقف هويتها. لم يطلقوا رصاصةً بعد على جبين الربيع يا حبيبي. ويا حبيبي طويلٌ هذا الإنتظار والبرد قارس.
لحن صفير الريح نايات تبكي الغربة الحزينة. يغفو على كتفي حشرجة فستاني الكستنائي العتيق. في عزف المطر.. في صهيل الشجر.. في رسائل القمر.. وحبيبي يمتطي قمع القهر.. في دمعة انسابت على زجاج روحي.
يسأل (بنادول) الوقت هل هو لكِ؟
هو لي لو فتح صندوق التذكر! هو لي ذكرى أقرؤها الآن في عيون الفراق من أزيز الرعد في عقارب العمر، هو لي ذكرى تشاركنا الآن تلك اللحظات.
في منفى روحي المهاجرة من نزيف اقتلاعي المر إلى زمهرير انتظاري على أشواك الحدود لي زبد الفراغ في قلب المحار، ليَ الانكسار والندى يلثمه ثغر النهار، لي الصبر ينزع شوك الصبار، لي كل هذا المدى.

اظهر المزيد

تعليق واحد

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى