مُكَلَّلَةً بِانْتِصَارٍ مَا تَزَالُ حُمْرَتُهُ تُلَوِّنُ الثِّيَابَ المُتْرَبَةَ التِي يَلْبَسُ أَعضَاؤُهَا، وَالأَمْتِعَةَ النَّاطِقَةَ بِالإِنْهَاكِ التِي يَحْمِلُونَ، وَصَلَتِ الجَمَاعَةُ أَطرَافَ المَدِينَةِ تَهْزِمُ بِالعَزِيمَةِ الإِعيَاءَ، وَتَشْحَنُ بالغَضَبِ القُلُوبَ وَبِالإِرَادَةِ الدِّمَاءَ، وَتَرَبَّصَتْ بِالقَومِ هَدأَة تَنْقَضُّ عَلَيهِم عِندَها، بَيْنَما اعتَلَى هُوَ صَهْوَةَ الجَبَلِ يَنْظُرُ إلَيهِم مِن بَعِيدٍ مُتَأَمِّلًا، غَارِقًا فِي رَحلَاتِهِ الّتِي لا تَنْتَهِي بَينَ أَمْسٍ يُلاحِقُهُ بِذِكْرَيَاتِهِ، وَغَدٍ يَفْرِضُ فِيهِ سَطْوَتَهُ مُنْتَصِرًا لِرَبِّهِ وَمُعْلِيًا رَايَاتِه، وَكَأنَّمَا تَسَرَّبَ الهُدُوءُ الّذِي يَحلُمُ بِهِ لأَطرَافِه. تَحَرَّكَت كَفُّهُ عَلَى لِحيَتِهِ الكَثَّةِ تُمَسِّدُهَا بِرَزَانَةِ القَائِدِ وَثِقَةِ الأَمِيرِ، وَعَينَاهُ فِي غَفْلَةٍ مُسَافِرَتَانِ عَبرَ المَدَى تُلاحِقَانِ خُيُوطَ الفِكْرِ وَتَغرَقَانِ مَعَ جَسَدِه المَفْتُولِ العَضَلاتِ فِي موَاتِ الشُّعُور.
كَانَ فَتًى مَلِيحًا يُكَركِرُ بِبَرَاءَةِ الطُّفُولَةِ، إِذ تُدَاعِبِهُ نِسْوَةُ البَلْدَةِ، وَيَبْكِي بِصَخَبِهَا حِينَ يَنْهَرُهُ الرِّجَالُ العَائِدِونَ مِن أَعَمَالِهِم مُتعَبِينَ مُطَالِبِينَ بِالسَّكِينَةِ حَوْلَهُم.. يَركُضُ وَرَاءِ الفَرَاشَاتِ البَيْضَاءِ وَيَركُلُ بِقَدَمَيْهِ الحَصَى وَيَلتَقِطُ لِأُمِّهِ مِنْ بَينِ أَقدَامِ الصِّبيَةِ زَهَرَاتِ الرَّبِيعِ النَّامِيَةَ عَلَى أَطرَافِ الدُّرُوبِ، قَبلَ أَن يَعُودَ لِلبَيْتِ قُبَيْلَ الغُرُوبِ؛ لِيَغتَسِلَ وَيَتَنَاوَلَ عَشَاءَهُ وَيَندَسَّ بَينَ إخْوَتِهِ فِي الفِرَاشِ يُتَابِعُونَ بَرَامِجَ الأَطْفَالِ عَلَى شَاشَةِ تِلْفَازِهِم الصَّغِيرِ، لَكِنَّهُ فِي ذَلِكَ اليَومِ ابْتَعَدَ قَلِيلًا فِي لُعْبَةِ “الاسْتِغُمَايَةِ”، فَاخْتَبَأَتِ الشَّمْسُ وَرَاءَ التِّلالِ قَبلَ أَنْ يَخْتَبِئَ فِي بَيْتِهِ كَكُلِّ يَومٍ، وَاخْتَفَى أَصْحَابُهُ فَلَمْ يَجِدْ مِنْهُم أَحَدًا عِنْدَمَا خَرَجَ مِنْ مَخْبَئِهِ، وَلَمْ يَدْرِ مِنْ أَيْنَ خَرَجَ عَلَيهِ ذَانِكَ المُتَسَكِّعَانِ بِحَرَكَاتِهِما المُرْتَخِيِةِ وَأَطْرَافِهِما القَذِرَةِ يَجُرَّانهِ لِبِنَاءٍ غَيْرِ مُكْتَمِلٍ.. حَشَرَاهُ فِي إِحَدَى حُجُرَاتِهِ المُعْتِمَةِ وَاسْتَلّا ذُكُورَتَهُمَا المَوبُوءَةَ تَسْلُبُهُ أَمَانَهُ وَإِنْسَانِيَّتَهُ.
جَرجَرَ جَسَدَهُ الدَّامِي عَبْرَ البُيُوتِ النَّاعِسَةِ لِيَصِلَ إِلِى حَيثُ كَانَتْ أُسْرَتُهُ تَبْحَثُ عَنْهُ بِرِفْقَةِ بَعضِ الجِيرَانِ، ولمْ يَخْفَ عَلَيْهِمْ لَمّا رَأَوْهُ الَّذِي كَانَ، وَلا أَسْعَفَ رُوحَهُ الجَرِيحَةَ بَعْدَهَا مَا فَعَلُوا، فَقَدْ أَصْبَحَ سُبَّةَ الفِتْيَانِ، وَشَبَّ فِي أَيَّامٍ أَعْوَامًا؛ يَزِيدُ بِهِ الغَضَبُ وَتَسْتَعِرُ فِي أَعْمَاقِهِ الكَرَاهِيَةُ سَاعَةً عَن سَاعَةٍ. فَلَمْ يَتْرُكْ فَنًا لِلقِتَالِ إِلا وَتَعَلَّمَهُ، وَلَا خَلّى سَبِيلًا لِلعُثُورِ عَلَى ذَيْنِكَ الصُّعْلُوكَينِ إِلا وَسَلَكَهُ حَتَى كَادَ يُسلِمُ نَفْسَهُ لِدُرِوبِ الصَّعْلَكَةِ عَلَّهُ يَعْثُرُ عَلَيْهِمَا فِيهَا.
أَعَادَتْهُ حَرَكَةُ الرِّجَالِ فِي السَّفْحِ إِلى حَيثِ هُوَ، وَنَظَرَ لِلشَّمسِ تَنْسَلُّ بِبُطءٍ وَرَاءَ التِّلالِ البَعِيدَةِ مُسْلِمَةً الرُّقْعَةَ الغَافِلَةَ عَمَّا يَنْتَظِرُهَا لِأَنَامِلِ اللَيْلِ تُوَشِّحُهَا بِالسَّوَادِ، فَهَبَطَ إِلِيهِم بِخِفَّةِ النَّمِرِ مُصْدِرًا تَعْلِيمَاتِهِ بِالتَّأَهُّبِ، بَينَمَا تَعبَثُ كَفُّهُ فِي عَصَبِيَّةٍ بِلِحيَتِهِ الكّثَّةِ وَتَمْتَمَ كَأَنَّمَا يحّدِّثُ نَفْسَهُ:
سَنَقْطَعُ بِاسْمِ اللهِ دَابِرَ الفَسَادِ.. حَضِّرُوا المِدَى لِرُؤُوسٍ “قَدْ أَيْنَعَتْ وَحَانَ قِطَافُهُا”!