نثر

أحداث الحياة.. (2)

ويحدث أن تحلق بك الأحلام بعيدا عن واقعك. يحوم بك طيرها عاليا عن أرض معيشتك. فصن رأس مالك من أن يضيع سدى. فأنفاس حياتك نفائس، الراحلة منها لا تعود. ولا يبقى منها سوى بصمات حارقة من الحسرة والندم.

ويحدث أن تهب عليك عواصف الحياة تترى فتخبو جذوة روحك، وتنحني آمالك. فأفق يا صاحبي. ولا تخنق أنفاس عطائك بحبل القنوط. فتلك سقطة تفصمك عن الحياة فتحيا وترضى بأي حياة.

ويحدث أن تأتيك البشريات من باريك وأنت في وقع حال قد أحالت فيها سرائرُك للجمود مسراتك. ونالت حرارة الأحزان من كبدك لبه، فدقت له شغاف الفؤاد ألما يهز أركانك بوقع الأنين. فتأتيك منه ألطاف تسقي برد يقينك للثبات، تروي ظمأ صبرك.. وتملأ زاد مسيرتك. تنزع عن بصيرتك غشاوة الحياة.. تنير لك الدرب. وتبعث روحك من رمسها وتبث في أوصالك دماء حياة جديدة.

ويحدث أن تسرق الأحداث بشدتها منك ثبات جنانك، فتبث للمخلوق أحزانك، وتشكو للقريب أشجانك. فلا تزداد إلا حزنا وشجنا. فيضيق صدرك من حيث كنت تسعى لانشراحه وتجتهد في فك ربقة الضيق عن أنفاسك.  وإنما نجاة فؤادك وتمام حياته بمولاك والانكسار على عتبة بابه معترفا تائبا وقد طهرت عبرة مآقيك جنانك من وزر المخالفة والتشوف لغير رضاه… فيطول بك كتمان تلك الحرب الضروس التي تجتاح ظاهرك وباطنك إلا في مناجاة الحق. فترسلها على جناح العبودية محفوفة بحسن صلاة وطول سجود وتضرع. فلا يخيب الرجاء في الله.

ويحدث أن يُرهق جنانَك صبيبُ مَورد آمالك بخيال قد باين واقعك، فهو إلى حلم الليالي أقرب. وأن يتعبه نبض دافق دافئ لا سامع له.

ويحدث وأنت في دروب سعيك لترميم كسرك وسد حاجتك أن تعمى بصيرتك عن رؤية مواطئ أقدامك. فتظن أي خطو لبلوغ آملك خطوا صحيحا ما دام سيمدك بما تريد. لكنك تنسى في غمار ذلك ذاتك وتفقد إنسانيتك. فلتعتن بانتقاء خطواتك وتمحيصها كما تعتني بانتقاء أهدافك.

ويحدث أن تلتبس عليك أزمانك الثلاثة. فللماضي والحاضر والمستقبل علاقة متلازمة متكاملة ومهمة في خط سير صحيح وسليم ودائم. مثلهم كمثل سائق عربة، لا بد له من التقدم أماما ولن يتم له ذلك إلا بالاهتمام بحاضره وهي عربته وخيله، والاستفادة من ماضيه وهي مرآة قافلته التي ينظر بها خلفه ليستقيم له سيره بلا تبعات تشغله أو تعطله. فلتتأمله. فإننا كثيرا ما نغرق في لجج الماضي، ونقضم الشفاه حسرة وندما، بينما ننسى السعي لبناء حاضرنا مستنيرينا بكل ما مضى من مواقف وتجارب ومن ضروب الحياة وبسماتها معا، نستثمر ذاك الكم الهائل من المعرفة بالحياة الذي خلفته الأيام بصمة في كياننا. لنرسم خطوتنا الراهنة والقادمة بحذر. فأنفاسك التي خرجت لن تعود، وصفحات عمرك التي تطوى لن تفتح مرة أخرى.  إنها دعوة لئلا تنفلت حياتنا منا سدى وسبهللا.

ويحدث أن تظنه القريب، وأنه لك كالنور للبصر. وأنه الدفء للجنان. وأنه لك من دون غيره قدر. وأنت في كل تلك الخيالات إنما فقدت القدرة على البصر.

ويحدث أن نغلو في حب الذات وذاك ما يجر للأثرة غالبا ويغرق في وحل النظرة المادية لماجريات الحياة، فلا نزن الناس إلا بالمنفعة ولا نرى الورى إلا دراهم تسعى على وجه البسيطة.. فيضيع الإحسان، ويضيع تقدير الجوهر، وتذوب معاني الحياة الحقة، وتنفصم عرى المودة والصدق والتضحية والبذل … عروة عروة. فنصير أقرب لحياة الغاب منها لحياة الانسان. فكم ستحيا وكم ستعيش؟! فما أنت ونفسك ومنافعك التي تفني عمرك فيها ولا تنظر إلا لها إلا لحظات ضئيلة لا وزن لها في كفة الدنيا.

ويحدث أن تمر بعينك الأشياء فتسوي بينها وتراها شيئا واحدا، فلا تبصر الحقيقة منها ولا تميزها لكثرة البهرج وضعف النظر. فكثيرة هي المظاهر والأقوال المنثورة في دنيا الناس لا نستطيع تقييمها بميزان منضبط لأمرين عارضين 1=ما يضاف للباطل من بهرجة تحاول إضفاء سمة الحق عليه لتسوغه علميا أو عمليا 2=فقدنا لميزان العلم الذي يمحص حقيقة الشيء في نفسه وجوهره بعيدا عن اللمعان المصطنع حوله. فهذان الأمران مما يلبس علينا إدراك وتمييز معسكر الصفين.

ويحدث أن ترى الواقع بسياقه يتنكر لجميلك. يتغافل عن صبرك. لا يحس بنار جوانبك التي تتلظى. فلا تبتئس ولا تيأس فليس هو نهاية الحياة يا صديقي.

اظهر المزيد

‫2 تعليقات

  1. ويحدث أن يحلق حرفك النير هاهنا مرفرفا بجناحي الود والوفاء لينثر أزاهير من حدائق كلماتك الدافئة بالمحبة والعطاء. أسعدتني إطلالتك البهية أديبتنا.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى