أدبنثر

دمشق .. المدينة الأنثى

أصعب القول أن تعجز عن قول الذي تريد ، عن الذي تحب ..!!
وهذا ما يحدث لي بالضبط ، حين يتلعثم اللسان في تهجي الأسماء الكامنة في القلب ..
هنا أتذكر كلمات لنزار قباني ، يرحمه الله : (لأنك أقوى من الكلام .. أصمت والسلام)
هذه هي دمشق ، المدينة الأنثى، ولا أعرف لماذا تتصف المدن العظيمة بالأنوثة، وقد يكون بُناتـُها كلهم من الذكور فحسب؟!
المدينة الأنثى لها عطر ، وولادة ..
المدينة الأنثى تسهر عند منتصف الشهر القمري لتسرق نور البدر مكتملاً وتنام على سرير الندى اللاصف على وريقات الصفصاف الفضية.
المدينة الأنثى ، دمشق ، لها غوطتان ، ورئتان ، ونهدان ، ونهر ، وحارس لا ينام على رأس قاسيون ..
المدينة الأنثى ، ينام أهلوها جميعاً ، فتظل عيونها ساهرة كأم حانية ،
تجول في مرمى نظرها أقدام قلقة ، وسيارات صفراء اللون تلتقط الذين فاتهم نعاس القطار ..

المدينة الأنثى ، دمشق ، حين دخلتها أول مرة ، فاجأني جمالها .. وعيون الصبايا الناعسات الزُرق والخُضر .. والشهل ..
وكنتُ قبل ذلك لا أدقق في الألوان رغم تداولي الرسم بالألوان ..
منذ تلك اللحظة ، في المدينة الأنثى الرائعة الولادة الصابرة ، التي تبث ياسمينها مع خطوط تاريخها لكل العابرين والمقيمين ..
منذ تلك اللحظة ، تعلمت الصمت والدهشة ..!
ما ساعدتني الكلمات أبداً لأقول وصفاً عن تلك الصامتة .!
ورغم وقوفي عند معالمها ، عند نهرها الذي كان يغسل الأرصفة غزارة ونقاءً ومحبة ، وعند مسجدها الأموي وفيه من أنبياء ما زالوا يتحدثون ، فترى أصواتهم ترسو على الجدران المنقوشة الندية ، فتنهمر دمعة ، كدمعة زكريا قبل أن يقسموه بمنشار إلى نبيين (!) أو كدمعة يحيى ، حين كان رأسه يرنو بعينين براقتين إلى جسده المفصول بين دمي ودمي .. ورغم وقوفي عند غوطتها ، وحدائقها المسيجة بالسرو والكبرياء ، وعند أسواقها العتيقة ، وعند سقفها السماوي وطينها الذي يتجدد فيه العبق.
ورغم وقوفي عند ناسها ، وكناس غزلانها ، وعرائن كواسرها ، وأعشاش طيورها .. ورغم وقوفي عند بواديها وحواضرها .. ورغم وقوفي عندها ؛
فيها ..
لها ..
بها ،
رغم ذلك كله ، لم أستطع ان أقول شيئاً عنها .. وأبقيتها سراً ، ينبش الوقت بعضه ، ويـُبقى لي متعة الصمت ..
دمشق ، المدينة الأنثى ، لي فيها ألف حبيبة ، ألف صديق ، ألف حكاية ، حتى البيت الذي كنتُ أستأجره بسبعين ليرة (!) في الشهر ، أيام الدراسة الجامعية ، تحول مع حضارتها!
وحين أزالوه ، لم أحزن أبداً ، لأن بيتي الذي كنتُ أستأجره صار نفقاً عند تقاطع شارعي بغداد والثورة. وصار الناس كلهم يعبرون من بيتي الذي كنتُ استأجره. وحين أزور تلك المدينة الأنثى ، أروح إلى هناك ، أعبر من بيتي الذي كنتُ أستأجره ..
يا لذاكرتي المصرّة على التكرار.
كنتُ استأجره ، نعم .. لكنني ما كنتُ أدفع قيمة الإيجار ، لأنني أدفع ذلك بدروس في التهجي لتلك الطفلة ، ابنة مالكة البيت الذي كنتُ استأجره. وحين غادرت تلك المدينة الأنثى ، قال رجل أعرفه :
(ابق هنا ، هالمدينة أحسن من غيرها)( .. فما سمعت الكلام .
وحين أعود إليها ، كنت أبحث كل مرة عن ذاك الرجل ، وعن أي إصبع في يدي فلا أجد ، فأعض على روحي..!
رغم ذلك كله ، ورغم وقوفي أمام عيونها الزرقاء والخضراء والعسلية ، حاولت أن أُبقيني في زمني ذاك .. حاولت حتى الجنون..
جنون يقودني على الخطوات ذاتها : إلى الجامعة ، الحميدية ، الأموي ، وبيت صلاح الدين (!) ومقهى الحكواتي ، ثم الصالحية، وباب توما ، والسيدة زينب ، والمدارس التي عَـلمتُ فيها ، وبائع الكنافة ، نبيل، في ذلك الزقاق الضيق ، ومطعم المصري بين محطة القطار وفندق سميراميس ، وقد كنت أرافق أبنائي إليه بعد ربع قرن ، فأجلس في المكان ذاته ، وأطلب الطلبات ذاتها ، آكل وحدي ، أنا ذاتي ، وهم يجفلون ، لا يأكلون ، فيحتار عامل المطعم ذاته ، وصاحب المطعم ذاته .. فأحكي لهما الحكاية من أولها ..!
رغم ذلك الصمت الذي تعلمتُ ، حاولت البوح بالأسئلة :
– من رأى الياسمين حين يتنفس عند فجر دمشق ..؟
– من يعرف عن قرب أجراس السمسم عند مداخل دمشق .؟ – من يعرف تينها وزيتونها وعنبها ، وصبارها ،غير الصابرين .؟!
..
أليس الصمت أجدى من البوح ..؟؟؟
….
قلتُ:
كلما أزور دمشق أو أعود إليها ، أروح إلى كل الأماكن التي عرفتها منذ عقود مضت .. أكون سعيداً ، حين أجد الأمكنة على حالها ، لأنها تقول لي أنني ما كبرت في العمر ..! فتنتابني هينمات من تلك الأوقات والنواحي ..
وذات صباح دمشقي ، زرت الجامعة على أوتستراد المزة .. دخلت ، وشربت الشاي في الكافتيريا ، ثم زرت القاعات التي كنت أتعلم فيها .. تذكرت أساتذتي الأفاضل / د . محمود حميدة ، د. عبد المرشد عزاوي ، د. عادل عبد السلام ..
في مبنى الإدارة ، وعلى يميني رأيت لافتة نحاسية على الباب مكتوب عليها اسم الدكتور العزاوي ، قلت سأدخل للسلام عليه ، فوجدته مغلقاً .. وحين سألت أخبروني أنه انتقل إلى الرفيق الأعلى منذ سنوات .. كم حزنت ، لكن هالني هذا الوفاء.
مازالوا يحافظون على حجرته .. واسمه ورائحته هنا .. أما الآخران فما التقيت بهما ، وما سألت بعد ذلك الباب ..وفاء ، ليس غريباً عن هؤلاء الناس البسطاء المحبين .. فمن أين لكم كل هذا يا أهل دمشق والمدائن السورية كلها ..!
أليس ذلك ثمرة التركيبة الكونية الفريدة بين الناس والوطن .. منذ أول حجر في أول مدينة في العالم ..؟ لذلك ، صدقوني ، وبعد ما نرى الآن من أحوال الأمة ، أقول :
لقد استنفدت فرص الحزن ..؟
وما أمامي إلا الصمت ..
وقد أستطيع القول ثانية عن المدائن العربية ..
..
وحين استيقظت هذا الصباح رأيت دمشق بين يديها طبق من الياسمبن وكوب من المطر .. قلتُ بسم الله، أكلت باليمين .. ومما يلي .. لقد أعادتني صبياً .. وقالت:
لا تقصص رؤاك على الخارجين ..

قبل الندى بهنيهة كان قوس قزج يقسم الشام نصفين .. قمرين، أو طبقين من دهشة الفضة ويحط أطراف ألوانه على توائم الياسمين وزرافات عاشقي الصباحات الندية .. هذا اللون لك وهذا له وذاك لها ورابع لي .. فاصنعوا ما تشتهون من أعلام ومن أحلام ومن تباشير النهار ..

المدائن الحبيبة جميلة حين تكون في مرمى الفؤاد وحين يتم اغتيال الفؤاد تموت، وتبقى عيناها شاخصتين تقتلان قاتلها .. دمشق إليك السلام. دمشق .. رأيتها البارحة تفرد جدائلها وراء قوس قزح وتغسل قدميها عند السبع بحرات .. اقتربت قليلاً ،
وقرأتُ السبع المثاني والفتح .. وتعوذت بالله من الشيطان الذي كان يمشي مهزوزاً على قدمين فاستصغرته لأنني ما رأيت إلا قفاه وما كاد يبين ولافتة صغيرة تقول أن اليوم هو الـ ..

المدينة الأنثى
تعلن عن نفسها من دون كلام ، بعبير نرجسها بعراقة جدرانها ودفء بيوتها بأصالة نسبها العروبي. خرجت من أحد أبواب الأموي عند مقهى النوفرة قال الحكواتي :
كان ياما كان ..
فهمت أنه يحكي عن مدينتي .. جلست أسترق السمع .

لماذا نحب دمشق ..
لو لم تكن هناك مشيمة تربط الناس بأمهم الأرض فيأتون من رحم المدائن عبر بواباتها .. نعم ،عند البوابات ترى ، كما الطفولة ، الوجوه المتشابهة .. أنا قد رأيت عند باب اليمن في صنعاء ، المطل على سوق الملح وعند باب الهند في مومباي ، المطل على محيطها وناسها ومعابدها وقرودها وعند باب سريجة ، المنفتح على الناس والخضروات والقهوة واللحوم والخضار ، فيصير ضيقاً إلا من محبة .. وعند باب الهوى الشمالي ، حين تشع الابتسامات في الإتجاهين .. هناك عند كل الأبواب تلك رأيت الناس البسطاء  العفويين  المحبين وجوههم واحدة ..
..
فلماذا يحاول البعض تغييرها وتدنيس حرمات البساطة والرغيف البسيط والابتسامات البسيطة والحلم البسيط ؟!
مدينتك الأنثى ، وطنك .. وحين لا تكون مدينتك ، لا تكون أنت .. فيها بيتك ، أسرتك ، ذكرياتك .. فالذي يحاول اغتيالك
بتشويه وجهها لا يفهم لغة العشق ..

المدينة الأنثى صاحبة الفعل ، والقول ، والحكايات الجميلة .. تفرض نفسها عليك / عشقاً ونزق محبين .. تقول لك في كل هنيهة : إنهض .. لا تترك الخفافيش تأكل المشمش البرتقالي ، ولا تترك الليل ينسلخ من نهارها قبل طلوع الفجر الصادق ..
لذلك حين لا تكون مدينتك ، لا تكون أنت ، وحين لا تحتضنك هي ، تنتابك البرودة. المدينة / القرية / الأرض الوطن من مقومات الروح والجسد والنفس فلماذا لا نرى ما نرى ؟ ونعض بالنواجذ على صبر الوطن وناسه الطيبين.

دمشق ، تقول للحالمين بالزفت ستشرق الشمس ، سترون وجوهكم في المرآة شديدة السواد .. دمشق تقول .. كم كانت دمشق صابرة وصامدة وكم حملت في ذاتها ذاك الوجع الذي يأتي من شقيق. كم كانت جميلة هذه النرجسة حين تقف إلى جانب الحق، وكم كانت قوية أمام المغريات .. انا عرفت دمشق ، بشكل شخصي ، تربطني بها عاطفة هوجاء ، كعاصفة كانونية ، وأعشقها كما فتى في العاشرة ، فتنتابني حالة لا أعرفها ، كما أول نظرة ، كما أول قبلة اختلطت بالحلم والصحو في آن. ما يعرف لها تفسيراً ، أنا الفلسطيني الذي أغلقت في وجهه كل المعابر والنوافذ إلاك. فتحت قلبك ، كحبيبة ، أو كأم حانية ، تهدهد بكفين مرتعشتين على زغب طفل ، يلثغ بأبجدية الوطن.
ومازال
..

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى