علوم تطبيقية

التلوث العلمي (2-2): العلماء وقابلية التحيزات

بقلم: محمد أمين خلال

تحدثنا في الجزء الأول عن الضغوطات السياسية والبيئية التي تتسلل إلى الهيئات والمؤسسات العلمية:

وتم التوضيح بأن العلم الطبيعي إنما هو مؤسسة مجتمعية بشرية، تبدأ من المجتمع وتنتهي إليه، بتعبير عالم الفلك البريطاني، كريس إمبي: “إن العلم هو نشاط إنساني بالأساس، وإنه معقد وغير كاملٍ شأن البشر أنفسهم“. (¹)

وإذا كنا لا نستبعد ولوج التأثيرات الخارجية إلى أي مؤسسة اجتماعية أخرى، فإن المؤسسة العلمية ليست استثناءً.

لكن ماذا عن التأثيرات الداخلية، وعلى رأسها تحيزات العلماء أنفسهم؟

أولا، يجب توضيح أمر مهم، وهو أن الثقة في العلماء وفي المؤسسات العلمية أمر مطلوب، بل أساسي، وأول مصدر يجب أن يقصده الإنسان بحثا عن المعلومة الصحيحة هم العلماء والباحثون المتخصصون، وهي المصادر العلمية كالمجلات والمنظمات والمؤسسات البحثية الرسمية.

وأنت عندما تذهب إلى الطبيب ويصف لك الدواء، إذا لم تكن على ثقة كاملة بالعلم والمؤسسات العلمية، فأول شيء يجب أن تفعله مباشرة بعد الخروج من عند الطبيب، هو تمزيق الوصفة الطبية ورميها في سلة المهملات.

ولكن لا أحد من العقلاء يضرب عرض الحائط بكلام الأطباء، بل يأتمنهم على صحته وحياته، والأطباء إنما هم جزء من المنظومة الشاملة التي تنجبها العلوم الطبيعية ومؤسساتُها البحثية، وعلى هذا، فلا يجب أن يفهم من هذا المنشور أن المؤسسات العلمية أو أن العلماء هم مؤامرة كونية كذابة جاءت لتدمير البشرية.

على العكس؛ بل يوقف لهم احتراماً وتقديراً ويُذكر جهدهم فيُشكر.

غير أنه وعلى طرف النقيض، يجب أن يُوضَّح للناس أيضاً، أن الثقافة العلموية السائدة حول قدسية المؤسسات العلمية والعلماء ورفعهم فوق مرتبة المساءلة والشك، يجب أن توضع بين قوسين.

فليس كل ما يصدر عن العلماء صحيح ونزيه، بل يعتريه ما يعتري أعمال البشر من تحيز وغش وأمانة وصدقٍ وتزييف وضغط وخطإ وسهوٍ وإصابة ونسيان.

والعالِم بدوره معرض للتحيز في نتائجه وأبحاثه، وإذا كنت تتذكر تقسيمنا السابق للعلم، فهو على شطرين، شطرٌ متجرد، تضع قطرة من الحبر في كأس ماء فتنتشر فيه بشكل فوضوي (إنتروبي) تحكمه قوانين الطبيعة وتصفه لنا قوانين الديناميكا الحرارية كما هو، فأما هذا الجزء من العلم فلا يدخله تحيز ولا غش ولا كذب ولا خداع، بل هو كما هو، تعبير عن الطبيعة كما هي الطبيعة.

وشطر آخر، وهو الذي يتصرف فيه العالم ويفترض ويستنتج ويستخلص، أو إن شئت قل: هو فلسفة العالِم تجاه نتائج العلم.

وهنا يمكن أن يدخل التحيز، والتعصب، والإيديولوجيا.

كما يدخل التحيز والتزييف أيضاً في كتابة الأوراق البحثية وعملية مراجعة الأقران والتحكيم ونشر الأبحاث.

يقول عالم الأحياء (التطوري) ستيفن جاي غولد: “لماذا نحن ساذجون لدرجة التصديق بخرافة أن العلماء الطبيعيين نماذج مثالية للموضوعية وعدم التحيز؟ […] نحن نعلم يقينا أن التحيزات تعلب دورا قويا في عملية الاكتشاف“.(²)

لماذا؟

لأن العالِم وهو يمارس العلم، لا يتخلى عن نزعته البشرية، بل ترافقه أحاسيسه ومشاعره وأفكاره الخاصة وإيمانه أو إلحاده. الأرجح فعلاً ألا يسمح لتلك الأمور بمخالطة أوراقه ونتائجه العلمية، ولكن الواقع يخبرنا بأنها تدخل في العديد من الأحيان، والأسوأ هو عندما يكون دخولها متعمداً، وهذا هو المقصود بالتحيز، فيتم تلويث العلم بأفكار خاصة، تتعلق بالعلماء وزاوية نظرهم للأمور، ثم يتم تمريرها على أساس أنها من صميم الكشف العلمي ونتائجه.

في الأخير، أكرر أن هذا المنشور ليس ضد العلم، ولا ضد العلماء، ولا ضد المؤسسات العلمية، بل على العكس، هذا المقال هو دعوة لتوجيه الاهتمام والثقة نحو مؤسسات البحث العلمي، والعلوم الطبيعية، ولكنه في نفس الوقت، ضد النزعة العلموية التي تستصنم العلم وكل ما يتعلق به على شكل آلهة منزهة عن التأثيرات والضغوطات والتحيزات، والحال، أن العلم ليس إلها.


Chris empy, How it Ends: from you to the Universe (New york & London: W.W. Norton & Company, 2010), 15 •(1)

Stephen jay Gold, Wonderful Life: The Burgess Shale and the Nature of History (London: W.W. Norton & Company, 1990), 244 •(2)

اظهر المزيد

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى