قضايا ثقافيةنقد

منازل الأديب ومراتب الأدب

الأدب موهبة وفن وصنعة ماهرة، لا يستطيع كل من مالت إليه نفسه أن يكون أديبًا فقد أجمع النقاد على أن الأديب يوجد ومعه الموهبة، التي تعينه على إجادة هذا الفن، ومن لم توجد معه هذه الموهبة فعليه أن ينصرف إلى صنعة أخرى، تتناسب مع ميله وطبعه، وهذا ما قرره بشر ابن المعتمر أول النقاد، حين حدَّد منازل الأديب من الأدب، فجعل في المنزلة الأولى الأديب الموهوب ذا القريحة الملهمة، ليصدر عن أدب رفيع جيد، وفي المنزلة الثانية الأديب، الذي يعاني في أدبه من الكد والمطاولة، فيكون أدبه وسطًا، وفي المنزلة الدانية وهي الثالثة، ينتج صاحبها كلامًا مهلهلًا متكلفًا، وهو الأدب الرديء، يقول بشر: “كن في إحدى ثلاث منازل، فإن أولى الثلاث أن يكون لفظك رشيقًا عذبًا، وفخمًا سهلًا، ويكون معناك ظاهرًا مكشوفًا، وقريبًا معروفًا،…. فإن كانت المنزلة الأولى لا تواتيك ولا تعتريك، ولا تسمح لك عند أول نظرك في أول تكلفك، وتجد اللفظة لم تقع موقعها، ولم تصل إلى قرارها، وإلى حقها من أماكنها المقسومة لها … فإن أنت تكلفتها، ولم تكن حاذقًا مطبوعًا، ولا محكمًا لشأنك، بصيرًا بما عليك ولك، عابك من أنت أقل منه عيبًا، ورأى من هو دونك أنه فوقك، فإذا أنت ابتليت بأن تتكلف القول، وتتعاطى الصنعة، ولم تسمح الطباع فلا تعجل، ولا تضجر، ودعه بياض يومك، أو سواد ليلك، وعاوده عند نشاطك، وفراغ بالك، فإنك لا تعدم الإجابة والمواتاة، إن كانت هناك طبيعة، أو جريت من الصناعة على عرق، فإن تمنع عليك بعد ذلك من غير حادث شغل، ومن غير طول إهمال، فالمنزلة الثالثة أن تتحول عن هذه الصناعة إلى أشهى الصناعات إليك، وأخفها عليك، فإنك لم تشته ولم تنازع إليه إلا وبينكما نسب والشيء لا يحن إلا إلى ما يشاكله” (البيان والتبيين: الجاحظ 1، 134 – العمدة: ابن رشيق 142.1) ، يقول أبو هلال العسكري: “إذا أردت أن تصنع كلامًا فأخطر معانيه ببالك وتنوق له كرائم اللفظ ، واجعلها على ذكر منك، ليقرب عليك تناولها، ولا يتعبك طلبها، فإذا مررت بلفظ حسن أخذت برقبته، أو معنى بديع تعلقت بذيله…. وإذا أردت أن تعمل شعرًا فحضِّر المعاني التي تريد نظمها”. ويرى الناقد ابن رشيق أن معاناة الشاعر في شعره أحيانًا تؤدي إلى كدّ فكره، وانصرافه إلى المعنى حتى يبلغ مراده، ويضرب لذلك مثلًا من شعر الفرزدق قال:

فإني أنا الموت الذي هو ذاهب
بنفسك فانظر كيف أنت محاوله

وحلف الفرزدق أن جريرًا لا يغلبه فيه، فكان جرير يتمرغ في الرمضاء حتى نقضه بقوله:

أنا الدهر يفني الموت والدهر خالد
فجئني بمثل الدهر شيئًا يطاوله

ثم يأتي محمد بن طباطبا [م 322 هـ] فيقرر أن الأديب يمرّ بمرحلة التفكير وترتيب المعاني، التي يريد نظمها، ثم مرحلة الإنتاج ليواخي بين المعاني بعضها مع بعض، وبينها وبين ما يتلاءم معها من القوافي والأوزان في اتساق وترتيب، بلا فجوة أو خلل، ثم مرحلة الترتيب والتنسيق بين الأبيات متوخيًا معانيها، ثم المرحلة الرابعة وهي التهذيب والتثقيف كالذكر أو الحذف، والتقديم والتأخير، والصقل والتثقيف، حتى يظهر النص في أجمل صورة، يقول ابن طباطبا: “إذا أراد الشاعر بناء قصيدة مخض المعنى الذي يريد بناء الشعر عليه في فكره نثرًا، وأعدَّ له ما يلبسه إياه من الألفاظ التي تطابقه، والقوافي التي توافقه والوزن الذي يسلس له القول عليه، فإذا اتفق له بيت يشاكل المعنى الذي يرومه أثبته، وأعمل فكره في شغل القوافي بما تقتضيه من المعاني على غير تنسيق للشعر وترتيب لفنون القول فيه، بل يعلق كل بيت يتفق له نظمه على تفاوت ما بينه وبين ما قبله، فإذا أكملت له المعاني وكثرت الأبيات وفق بينها بأبيات تكون نظامًا لها، وسلكًا جامعًا لما تشتت منها، ثم يتأمَّل ما قد أدَّاه إليه طبعه، ونتحته فكرته، فيستقصي انتقاده، ويرم ما وهي منه، ويبدل بكل لفظة مستكرهة لفظة سهلة نقية، وإن اتفقت له قافية قد شغلها في معنى من المعاني، واتفق له معنى آخر مضادّ للمعنى الأول، وكانت تلك القافية أوقع في المعنى الثاني منها في المعنى الأول، نقلها إلى المعنى المختار الذي هو أحسن، وأبطل ذلك البيت، أو نقض بعضه وطلب لمعناه قافية تشاكله، ويذكر بشر بن المعتمر خصائص الأسلوب الجيد فيقول: “ومهما أخطأك لم يخطئك أن يكون مقبولًا قصدًا، وخفيفًا على اللسان سهلًا، وكما خرج من ينبوعه، ونجم عن معدنه وإياك والتوعر، فإن التوعر يسلمك إلى التعقيد، والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك ويشين ألفاظك، ومن أراد معنى كريمًا فليلتمس له لفظًا كريمًا، فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حقهما أن تصونهما عما يفسدهما ويهجنهما، وعما تعود من أجله إلى أن تكون أسوأ حالًا منك قبل أن تلتمس إظهارهما وترتهن نفسك بملابستهما، وقضاء حقهما”.( عيار الشعر: ص 5 والبيان والتبيين ك الجاحظ 135.1).

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى