الحوار المعرفيعلم نفس واجتماعفكر

الاستدلال بالحس الإحصائي

رجل متهم بارتكاب جريمة قتل .هو ينفي الاتهام الموجه له ، لكن المحقق الجنائي يميل لإثبات التهمة عليه، بسبب استدلاله بالحس الإحصائي ..هذا الحس تشكل لدى المحقق بسبب اجتماع عدة قرائن أو أدلة عامة ضعيفة تشير إلى ارتكاب الرجل تلك الجريمة . فهناك مصلحة للرجل تتحقق بارتكاب الجريمة . كما أن المتهم يمتلك النوعية نفسها من السلاح، الذي استخدم في القتل ، وهناك من يشهد بأن المتهم قد قام فعلاً بتهديد الضحية بالقتل في وقت سابق ، فضلاً عن أن المتهم لم يكن دقيقاً في تحديد مكان وجوده وقت ارتكاب الجريمة . من الواضح أن هذه القرائن كلها أدلة عامة تقبل التفنيد والدحض بسهولة بسبب عموميتها التي تجعلها أدلة ضعيفة ، لكنها في الوقت نفسه تساعد على تقبل ثبوت التهمة على الرجل بسبب تعددها ،لأن التعدد يدعمها ويقويها ويجعل لها تأثيراً في عقل المحقق .فهي تشكل لدى المحقق ميلاً للاقتناع باحتمال أن يكون المتهم قد ارتكب الجريمة فعلاً على الرغم من وجود الاحتمال الآخر الذي يفيد ببراءته . ومن المؤكد أن هذا الميل سيصبح أكبر كلما ازداد عدد الأدلة التي تقوي من احتمال ارتكاب المتهم للجريمة ..

المحقق الجنائي الذي قد يغره رجحان عدد الأدلة الضعيفة ليحاول بشكل لا شعوري أن يزيد من تجميع هذه الأدلة ،مع الإعراض لاشعوريا عن التفكير في الاتجاه المعاكس لنفي التهمة عن المتهم .لأن الحس الإحصائي لدى المحقق الجنائي سينمو في الاتجاه الذي حقق الرجحان في عدد القرائن على حساب الاتجاه المعاكس . ومن ثم فإن هذا يدفعنا للتفكير بضرورة وجود جهة قانونية مقابلة لجهة التحقيق الجنائي كي تعمل على تجميع القرائن في الاتجاه المعاكس لإثبات براءة المتهم وهي بالطبع جهة محامي الدفاع عن المتهم .

لكن ليست كل القضايا التي نصدر فيها أحكامنا قضايا قانونية .لذا فإن الحس الإحصائي في قضية شخصية خاصة عاطفية أو اجتماعية أو فكرية قد لا يقابله وجود جهة للدفاع لتعمل في الاتجاه المعاكس. وهكذا فقد نبني أحكامنا الخاطئة بالاعتماد على الاستدلال بالحس الإحصائي الذي قد يجر علينا الشعور بالندم بعد ذلك . . .

أدق تعريف لما أسميه (الحس الإحصائي) يمكنني صياغته كما يلي :

“إن الحس الإحصائي على الرغم من ضعفه المنطقي فإنه يتحكم بنا من خلال توجيه عقولنا وتدخله المباشر في بناء أفكارنا” ثناء حاج صالح

الحس الإحصائي :هو الشعور المتنامي بالميل لإثبات حكم احتمالي معين دون غيره بسبب تزايد عدد الأدلة العامة غير القطعية التي تدل على ثبوته ) فأما كلمة( الحس ) فتأتي من الشعور الجارف بالميل نحو اتجاه دون آخر وأما كلمة (إحصائي ) فلأن هذا الحس يعتمد في نشوئه وتقويته بالدرجة الأولى على إحصاء (تعداد ) الأدلة غير القطعية التي يقوي تعددها تأثيرها في ذهن الباحث.

الحس الإحصائي مفيد عموماً في الاستدلال في الحياة العامة لترجيح حكم على آخر ، وقد يقود الباحث إلى إصدار حكم صحيح في قضية ما .

ومن الناحية النفسية للباحث العلمي يشبه الحس الإحصائي ضوءاً موجهاً ينحصر دوره في توجيه عقل الباحث في اتجاه معين دون آخر . و لا يمكن الاعتماد على دقة نتائجه إلا بتأييده بعدد كبير جداً من التكرارات لوقوع حدث احتمالي معين .وهذه نقطة يتم التشديد عليها في الدراسات الإحصائية المطلوبة لتأكيد أحكام علمية احتمالية معينة أو نفيها بناء على القيم الاحتمالية . إذ لا يمكن القبول علمياً بنتائج دراسات إحصائية تطبق على عدد قليل من التكرارات للأحداث الاحتمالية بسبب إمكانية أن يتكشف واقع البحث عن معطيات علمية مغايرة تماماً لمنحى الحس الإحصائي .

ومن الناحية النفسية للإنسان العادي قد يتسبب الحس الإحصائي في مشكلتين اثنتين:

ـ إحداهما: أنه يسبب الشعور بالقلق بسبب الشك في مدى مصداقية الحكم بعد أن تم بناؤه بالاعتماد على معيار الحدث الاحتمالي وهو معيار قلق جدا ، فعندما يطغى الاستدلال بالحس الإحصائي على الذهن فإن السمة المزعجة التي ستتسم بها الشخصية هي التسرع في إطلاق الأحكام التي تحتاج إلى التؤدة والتمحيص..

ـ أما المشكلة الثانية فهي الشعور بالذنب والخيبة في حال ظهور الأدلة القطعية الدقيقة التي تنفي الحكم المتسرع بشكل لا يقبل الجدل.

فعندما يحدث هذا في قضية قانونية من جهة الدفاع عن المتهم فإن المفاجأة ستكون مزعجة للمحقق للجنائي الذي استرشد طويلا بالحس الإحصائي . كونه سيدرك مقدار بعده عن الحق والعدل أو عن التحليل الدقيق للمعطيات والذي جعل جهده يضيع أدراج الرياح ..وهذا ما سيصل به إلى القناعة بأنه لم يكن سوى ضحية من ضحايا الحدس الخاطئ الممثل بالحس الإحصائي الذي قاده في ذلك الاتجاه من التحقيق .

ولعلي أقود بعض الأمثلة الطريفة والشائعة على آثار الحس الإحصائي في حياتنا النفسية:

فالاستدلال على مكان دابّة ضائعة في الريف مثلاً قد يتم باتباع الأثر ، وهذا استدلال بالحس الإحصائي لأن اتبّاع الأثر يقتضي تعدّد الأثر وتكراره، مما يؤدي إلى تقوية الميل لإثبات مرور الدابّة في اتجاه احتمالي معيّن دون غيره . وكل انطباع إضافي لآثار الأقدام تتم ملاحظته يقوي الحس الإحصائي وينمّيه لمتابعة البحث .

مثال آخر : كل منا يتمثل ذلك المشهد الذي تجلس فيه الفتاة الصبية وفي يدها زهرة وهي تنتف بتلاتها الواحدة تلو الأخرى وتقول : يحبني – لا يحبني – يحبني – لا يحبني … طبعاً آخر بتلة تنتفها هي التي ستساعدها على الحكم بكونه يحبها أو لا .. فالفتاة هنا تعتمد على الحس الإحصائي من جهة توفير العدد الكبير من التكرارات لاحتمال أنه يحبها ،أو للاحتمال المعاكس عن طريق اختيارها لنوع من الأزهار ذي عدد كبير من البتلات، إذ يمثل نتف البتلات عندها تعاقب الاحتمالات . ولو حدث أن انتهى نتف بتلات الزهرة عند (يحبني) عدة مرات في عدة زهرات فإن ميل الفتاة للحكم بأنه يحبها سيتضخم أكثر من ذي قبل .. وفيما لو حدث أن كل الأزهار التي نتفت الفتاة بتلاتها على الإطلاق قد انتهت باحتمال (يحبني ) فإن هذا – ويا للغرابة – قد يصل بالفتاة إلى شعور يشبه الجزم بأنه يحبها … فماذا لو رافق ذلك المزيد من الأدلة العامة والضعيفة من نوع آخر ؟ كوجود سيارة تتعقبها وهي في طريقها إلى الجامعة و وجود باقة ورود قرب نافذتها ،وبالتالي ألن تقوي كل تلك القرائن مجتمعة من شعورها بأن ذلك الشاب يحبها فعلاً ؟ ما يمكننا توقعه ببساطة أن الفتاة ستحاول تجميع عدد أكبر من القرائن الواقعية وإن كانت ضعيفة لتوظفها في خدمة ما تحب إثباته، فيمكنها تفسير كل كلمة أو إشارة تصدر عن الشاب على أنها رسالة موجهة لها ، ويمكننا بعد هذا أن نتأمل كيف ستكون خيبة الفتاة كبيرة عندما سيكشف لها الواقع عن التفسير الصحيح لكل تلك القرائن الضعيفة …

ما يهمنا هنا أن الحس الإحصائي كان يزيد من حماس الفتاة لتجميع المزيد من الأدلة في اتجاه معين دون آخر …

وفي الحقيقة ، فإننا في الكثير من قضايانا النفسية التي نتبع فيها الحدس نقع فريسة وضحية للاستدلال بالحس الإحصائي . إذ يتدخل الحس الإحصائي في تشكيل الحدس منذ اللحظات الأولى للشعور بالميل لإثبات حكم احتمالي معين أو نفيه . وما يمكن أن نسميه حدساً ليس في الواقع سوى محصلة سريعة جداً لعمل العقل الذي يجمع قرائن وأدلة عامة منذ اللحظات الأولى للتعامل مع موضوع معين أو شخص معين ليعقب ذلك مطابقة سريعة أيضاً لها مع ما هو مختزن من الخبرات المماثلة المشابهة. لذلك فإن الحدس الذي نشعر به والذي يوجه مشاعرنا وأفكارنا في اتجاه معين هو محصلة للنتائج السريعة لنمو الحس الإحصائي بشكل آني سريع قد لا يستغرق أكثر من بضع ساعات أو حتى بضع دقائق…

على الصعيد الاجتماعي قد لا يبدو الحس الإحصائي منطقياً بما يكفي للمجاهرة بمعطياته أو لمناقشة الأدلة والقرائن الضعيفة التي يعتمد عليها . لذا فنحن نحتفظ بإيحاءاته لنناقشها مع أنفسنا، وقد نمتلك من الأصدقاء المقربين من يشجعنا على البوح بما يشغل تفكيرنا ، لكن البوح يقتصر غالباً على سرد الأحداث التي تمثل مجموعة الأدلة غير القطعية ، دون أن نمتلك الجرأة على الاعتراف بالاستنتاج الذي تقودنا إليه، إذ أن البوح بذلك الاستنتاج كما هو الحال عند المحقق الجنائي أو عند الفتاة الحائرة، سيبدو أضعف من أن يتم التصريح به من الناحية المنطقية الموضوعية .ويأتي هذا من شعورنا بالفرق بين ضخامة إحساسنا في الحس الإحصائي مع هشاشة المعطيات المنطقية، التي تقدمها الأدلة الضعيفة كل على حدة .

لكن في كل الأحوال فإن الحس الإحصائي على الرغم من ضعفه المنطقي فإنه يتحكم بنا من خلال توجيه عقولنا وتدخله المباشر في بناء أفكارنا .

اظهر المزيد

تعليق واحد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى