تاريخ وتراث

التراث.. وفهم التراث

(1)

لا شك أن كل أمة تستمد الجزء الأكبر من ثقافتها، وتصورها العام للأشياء؛ من تراثها الموروث عن سلفها.

فكرة السلف القديم، والآباء المؤسسين، وجودة علومهم، وسبق ريادتهم، ودورهم التأسيسي في تشكيل المقولات المركزية في أية منظومة ثقافية أو فكرية: هي فكرة عامة في جميع الثقافات والأديان، حتى أكثرها حداثة وقطيعة مع التراث، فإنها تستبطن ذلك المفهوم بصورة أو بأخرى. ولهذه الفكرة أسس عقلانية وموضوعية وتاريخية تكاد تكون عصية على الإجهاض.

ومن ثَمَّ فلا غَرْوَ أن تعتني كل أمة بتراثها، وتوليه اهتمامها، حفْظًا، ودرْسًا، وتيسيرًا. ونحن نلحظ هذا على سبيل المثال في الجهود الرهيبة المبذولة مع التراث اليوناني، والروماني اللاتيني في الغرب، رغم كونه تراثًا بلغة مباينة للغات الأوروبية المستعملة الآن.

(2)

وهنا يجب أن ننتبه إلى فرق أساسي بين نمطين مختلفين في التعامل مع التراث. فهناك فرق بين النظر إلى التراث (كتراث)، بما يعني كونه أثرًا ماضيًا، وتاريخًا، كموضوع للدراسة والتحليل فحسب، وليس كأساس بنائي للحضارة والثقافة، أو لشيء حيّ فاعل عمومًا. فهذا المفهوم للتراث هو نفسه ليس مفهومًا تراثيًّا، بل هو مفهوم حداثيّ قائم على القطيعة المعرفية والاستئناف.

فتراثنا الإسلامي، على سبيل المثال وكما سنشير الآن، ليس تراثًا وفق هذا المفهوم.

فرق بين هذا المنظور في التعامل مع التراث، والمنظور الآخر للتراث كأساس معرفي وتاريخي ووجداني للحضارة والثقافة. بما يعني وجوب تدبره وفهمه فهمًا عميقًا، ليس للوقوف عنده فحسب، ولكن لمواصلة التطوير والبناء عليه؛ لأنه لا يمكن التأسيس ثقافيًّا بالقطيعة معه. وهذه هي الحالة المتمثلة في موقفنا من التراث الإسلامي.

“يجب أن نقر بالمشكلة القرائية للتراث. نحن نتحدث هنا عن انقرائية التراث. انقرائيته في نفسه، وصعوبات الكثيرين في التعامل معه وقراءته. وهذا العسر في فهم التراث: ينتج سوء فهمه، وسوء اقتباسه، واختزاله، وتحريفه، وتشويهه عن عمد أو غير عمد، وحشوه بمضامين أجنبية عنه” عمرو بسيوني

لقد أدلى حسن حنفي بملاحظة قيمة حول هذا الموضوع في أطروحته: الاستغراب. فإنه ثمة اختلاف واضح بين طبيعة الفكر الغربي والفكر الشرقي. فالفكر الغربي بطبيعته، وفي أطواره التاريخية المختلفة: انفصالي هدمي. بخلاف الفكر الشرقي والإسلامي بخصوص: فهو فكر اتصالي، إحيائي، فجميع نهضاته نهضات إحيائية، بخلاف الفكر الغربي الذي كانت جميع نهضاته هدمية للقديم.

(3)

ووفق النقطة السابقة: يكتسب التعاطي مع تراثنا، وفهمه الفهم السليم: أهمية مضاعفة. نظرًا لطبيعة ثقافتنا واتصالها وبنائيتها.

ولا يمكن أن نغفل عن الأهمية المضاعفة الأخرى لتراثنا، نظرًا لطابعه الديني. فالتراث اللاهوتي أقل أهمية بالنسبة للغرب على سبيل المثال، لأنه يدرس كنظريات فلسفية مجردة. وهذا التراث اللاهوتي، حتى الإسلامي منه بالمعنى اللاهوتي الدقيق، كعلم الكلام: هو تراث ميت في الغالب، لأنه محل اهتمام قلة قليلة من المختصين، وليس حاضرًا في المجال العام ثقافيًّا وحضاريًّا، وحتى دينيًّا بالمعنى الاجتماعي للدين.

 إلا أننا كأمة مسلمة، نملك تراثًا دينيًّا كثيفًا وليس لاهوتيًّا بهذا المعنى الفنّي الدقيق. فنحن أمة معجزتها الأساسية كتاب، والبيان جزء أساس في وجدانها. تاريخنا الإيماني والديني والعبادي والحضاري والقانوني كله مبني على ذلك التراث وتلك اللغة. فلا يمكننا أن ننعتق من ذلك التراث إلا بأن نخلع ربقة ديننا وحضارتنا وثقافتنا من أعناقنا. وهذا هو الموت عينه.

(4)

لا ينبغي إنكار أننا نواجه مشكلة في التعامل مع تراثنا. مشكلات كثيرة في حقيقة الأمر، كثير منها على مستوى التعاطي، والتحليل، وإعادة القراءة، والنقد، والتطوير، لكن دعونا لا نقفز خطوات، دون أن نستوثق من الخطوة الأولى، وهي: فهم التراث، مجرد فهمه أولًا. ثم ليكن من الموقف منه ونقده أو تطويره حديث آخر، لا جرم.

يجب أن نقر بالمشكلة القرائية للتراث. نحن نتحدث هنا عن انقرائية التراث. انقرائيته في نفسه، وصعوبات الكثيرين في التعامل معه وقراءته. وهذا العسر في فهم التراث: ينتج سوء فهمه، وسوء اقتباسه، واختزاله، وتحريفه، وتشويهه عن عمد أو غير عمد، وحشوه بمضامين أجنبية عنه. وهذا قد يمارسه حسنو النية والمغرضون على حد سواء. فنجد الاختزال والتحريف والتشويه عند الجهلة من مدعي التنوير، والعلمانية، والليبرالية، وكذلك عند الغلاة والمتطرفين والتكفيريين، وحتى عند الملحدين وأعداء الدين.

(5)

يرجع ضعف فهم تراث العلماء إلى عاملين أساسيين:

أولا: اللغة.. ويتمثل في:

ضعف اللغة العام. والمقصود به ضعف المهارات اللغوية العربية الأساسية، على مستوى النحو والصرف والبلاغة ومتن اللغة العام.

ضعف مستوى اللغة التراثي المختلف عن اللغة الثقافية المعاصرة، الذي تقل مستوى جودة انقرائيته عند كثير من المتميزين في القراءة الصحافية، وحتى العلمية الأكاديمية المعاصرة، وذلك بسبب: الألفاظ المعجمية القديمة، مشكلة عود الضمائر في النصوص التراثية، مقتضى العبارات المتوهمة ومفاهيمها وقيودها واحترازاتها، الشحنة البلاغية وبخاصة البديعية فيها، والشحنة المنطقية الموجودة في كثير من نصوص التراث العلمية، والتي تحتاج مستوى جيدًا من المعرفة بالمنطق الكلاسيكي المعرَّب.

ضعف مستوى اللغة الاصطلاحي. فيفسر القارئ كثيرًا من العبارات لغويًّا، بينما يريد الكاتب بها معنى اصطلاحيًّا خاصًّا بفنِّه، (النص، الظاهر، المحكم، المفهوم، الاستحسان، الواجب، المقطوع، المنقطع، المبهم، المسلسل، الثقة، الصدوق، الحد، الرسم، التضاد، التناقض، المشترك، المترادف.). وغير ذلك كثير جدًّا من الكلمات والتراكيب التي قد يفهمها القارئ غير المتخصص فهمًا مختلفًا لعدم إدراكه لاستعمالها الاصطلاحي في التراث.

(6)

ثانيا: السياق:

وبصفة عامة، لا يمكن فهم الكلام، أو فهمه فهمًا دقيقًا: دون معرفة سياقه. ونحن في حالة التفاهم مع التراث نتعامل مع سياقات متعددة له، يجب أن يراعى فيها الفوت التاريخي من جانب، والسياق الموضوعي العلمي من جانب آخر.

فيتمثل جانب السياق في:

البيئة السياسية والاجتماعية للكاتب، حيث تقع كثير من الكلمات المتعلقة ببيئته، أو الوضع السياسي الذي يعيش فيه، لا تفهم بمجرد اللغة (مثلا: السلوم، والياسق، والبرطلة، وأسماء الصناعات والمأكولات)، لا سيما مع وقوع الاشتراك مع الكلام المعاصر، مثل (الفلوس، والسياسة، والكيمياء). وفي تلك الحالة قد يؤدي هذا الاشتراك إلى أخطاء هائلة في الفهم إن أسقط اللفظ القديم بمعناه القديم على المعنى المعاصر.

 البيئة العلمية وخلفيات الكاتب، فكثير من كلام العلماء قد يكون بمثابة الرد على شخص معين، أو اتجاه علمي معين، أو قول ذائع معين، وقد يكون دون التصريح به، ودون الإحاطة بتلك الخلفيات لا تفهم حقيقة القول ولا حقيقة الرد عليه، ولا الإشارات المتضمنة في كلامه، وكذلك كثير من كلامهم يكون تعبيرًا عن اتجاه علمي أو فئوي معين، أو اختصار له، أو تدليل له، ولا يفهم ذلك حق فهمه دون معرفة ذلك.

السياق الموضوعي للعلم. بمعنى أن العلم، ولغة العلم، والكتابة في العلم، تتضمن بدهيات ومسلمات سياقية، قد لا يحتاج كل كاتب، ولاسيما إن كان من المتوسعين في العلم: إلى التنبيه عليها، أو ذكرها نصًّا في كلامه، وينشأ عن عدم فهمها إشكالات كبيرة جدًّا، ترجع لكون القارئ أجنبيًّا عن السياق الموضوعي للعلم موضوع التراث الذي يتعاطى معه.

(7)

وأضرب مثالًا على النقطة الأخيرة المتعلقة بالسياق الموضوعي للعلم وأثرها في فهم النص التراثي، وكيف يتسبب عدم الإحاطة بها أو الانتباه إليها إلى أخطاب جسيمة.

أضرب مثالًا بنص يسيء استعمالَه بعضُ الغلاة من الدواعش ونحوهم نتيجة لسوء فهمه، ويستدلون فيه بكلام لشيخ الإسلام ابن تيمية، على أن قتل الولد لوالده المشرك جائز وقد يقولون إن له أولوية. ولذا قاموا بعملياتٍ قتل فيها الولد والده، أو عمه، أو خاله، ونحو ذلك من الغدر والغيلة والفتك، المضاف إلى سفك الدم.

يقول ابن تيمية في ذلك النص: (({وبالوالدين إحسانا} فهذا فيه تقييد. فإن الوالد إذا دعا الولد إلى الشرك ليس له أن يطيعه بل له أن يأمره وينهاه وهذا الأمر والنهي للوالد هو من الإحسان إليه. وإذا كان مشركا جاز للولد قتله وفي كراهته نزاع بين العلماء)).

فيفهمون من ذلك أن الشيخ يجيز قتل الولد لوالده المشرك، بإطلاق – وهذا بقطع النظر عن صحة تكفيرهم الغالي الفاسد -.

والحال إن الفاهم لطبيعة الموضوعات العلمية وسياقها، يعلم أن الشيخ في تعليقه على آية (وبالوالدين إحسانًا) وبعد أن فرغ من جواز أمر الوالد ونهيه إن أمر ولده بالشرك، وأن هذا نوع من التقييد لعموم الإحسان، وأنه نفسه من الإحسان، دلل على ذلك بمسألة أخرى وهي جواز قتل الولد لوالده المشرك في القتال، يعني في ساحة المعركة والقتال إن التقى بوالده مشركًا مقاتلًا، وليس قتلًا محضًا غيلة، وإن كان ذلك نفسه مكروها عند بعض الفقهاء، كما حكى الشيخ نفسه.

فقوله: (وإذا كان مشركا…) = مسألة مستأنفـة ليست متعلقة بدعوة الوالد للشرك، فإن القرآن نص ألا يطيعه، وأن يصاحبه معروفًا: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفً} [لقمان: 15]؛ فكيف يجيز أحد قتله ضد النص!

فهي مســألة ذكرها الشيخ استطرادا للدلالة على أن الإحسان للوالدين ليس واجبًا في كل حال، بل يتقيد في مواضع، واستدل على ذلك بهذه المسألة المعروفة عند الفقهاء، وهي قتل الوالد المشرك في الحرب والحرابة، كما قتل ‍طلحة أباه، وكما قتل الرجل أباه الساب للنبي، وكذا نحوها من مسائل الفقهاء كحكم حد الولد أبيه في القطع والجلد ونحوها، مما يكرهه أكثر الفقهاء، ويبيحه بعضهم بلا كراهة.

ولكن لما كان الشيخ يتداول بحثًا استدلاليًّا فنيًّا، فإنه يتكلم في مسائل العلم بالمعهود بين المشتغلين، وقال تلك العبارة التي لا يفهم منها فقيه قط إلا ذلك الذي ذكرناه. ثم يأتي الجاهل المفتقد لأبسط الأدوات فيقرأ مثل تلك العبارة، ويجهل فحواها وإشارتها وسياقها المعهود، وربما تحدّاك: بأن ما تذكره تخصيص، وليس في كلام الشيخ إلا العموم! والحال إنه لا عموم إلا في ذهنه الفارغ من العلم، الغافل عن الانتباه إلى السياق.

اظهر المزيد

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى