علوم تطبيقية

إسلامية العلوم وموضوعيتها

القضية:

النظرة الساذجة الشائعة حتى بين كثير من المثقفين منا ، بل ومن المثقفين الغربيين، بل وحتى بين كثير من المشتغلين بالعلوم سواء منها الطبيعي والاجتماعي تقول إنَّ للعلم منهجاً واحداً متفقاً عليه بين كل العلماء الذين يدرسون الظواهر الطبيعية أو الاجتماعية دراسة علمية ، وأن هذا المنهج يُمكّن سالكه من الوصول إلى الحقائق الواقعية وتصويرها كما هي تصويراً أميناً، وتفسيرها التفسير الصحيح الذي يتناسب معها، تصويراً وتفسيراً لا علاقة لهما بمعتقدات العالِم الباحث المفسر، ولا بآرائه الفلسفية ، أو قيمه الخُلقيّة أو أهدافه الذاتية، أو حقبته التاريخية ، أو بيئته الثقافية . ويظن كثير من عامة المثقفين الذين لا يشتغلون بهذه العلوم ، ولا يعرفون شيئاً عن تاريخها وفلسفتها أن أصحابها لا يختلفون فيها اختلاف الفقهاء الذين يكثرون من ترديد عبارة (في المسألة قولان).

وهذا يعني أن قضية المنهج العلمي قضية قد بُتّ فيها ولم تعد تحتاج إلى نظرٍ جديد ، وأنه ما علينا إذا أردنا أن نكون عُلماء ، إلاّ أن نعرف هذا المنهج ونلتزم به في المجالات التي نريد دراستها لكي نصل إلى حقائقها وندرك تفسيرها. هذه النظرة الساذجة للموضوعية هي سرٌ من أسرار تلك الصدمة الشديدة، والحسرة البالغة التي شعر بها كثير من المثقفين في عالمنا الإسلامي إثر سماعهم بالدعّوة إلى إسلاميّة العلوم .

لقد سوّل لهم شيطان تلك النظرة أن الدعوة إلى إسلاميّة العلوم لا تعدو أحد أمرين :

(أ) أن تكون مظهراً من مظاهر النظرة الدينية الضيقة المتزمتة التي أفسدت علينا – بزعمهم – حياتنا الاجتماعية والسياسية وتريد الآن أن تمد يدها إلى الحقائق الموضوعية العلمية فتزيفها بأن تلوي أعناقها لتتواءم مع دعاواها الدينية.

فمشروع إسلامية العلوم حسب هذه النظرة هو أشبه ما يكون بفعل عالم الأحياء السوفيتي لايسنكو الذي حاول أن يجعل علم الأحياء موافقاً للأيدلوجية الشيوعية فأنكر بعض الحقائق المتعلقة بعلم الوراثة واستغل منصبه الإداري ليمنع نشر أي دراسة تخالف نظرياته ، فأدى ذلك إلى تدهور هذا العلم في البلاد الروسية حتى اضطرت الدول الشيوعية فيما بعد إلى تدارك الأمر فأفسحت المجال للعلماء لكي يعبروا عن اعتقادهم بصحة ما أنكر لايسنكو.

(ب) أن تكون دعوة جوفاء لا حاصل لها إلا تبديل أسماء بأسماء ، أي أن الداعي إلى الإسلامية في أي علم من العلوم سيأخذ بما قال الغربيون من حقائق ، وبتفسيرهم لتلك الحقائق أو بأخذ منهجهم العلمي في إدراك الحقائق الطبيعية والاجتماعية ثم يسمى ذلك علم  نفس أو اقتصاد أو  اجتماع إسلامي .

ما جوابنا عن هذا ؟

هل نسلم بصحة تلك الصورة الشائعة فيلزمنا إذن أن نلتزم نتائجها ؟

أم ننكرها كلها فنقول إن هذه العلوم لا تقوم على شيء من الموضوعية ، وإنها لا نعدو أن تكون وجهات نظر في العلم كتب لها أن تسود لأسباب اجتماعية تاريخية لا علاقة لها بصلب العلم؟ أم أن هناك مخرجاً ثالثاً؟

هذه هي القضية ، صورة العلم الواقعية :

يحسن قبل أن نصدر حكماً على صحة الصورة الشائعة أو خطئها وقبل أن ندعو إلى بديل لها أن ننظر في واقع هذه العلوم كما يمارسها أصحابها حسبما وضعها مؤرخوها وفلاسفتها وبعض المشتغلين بها من العلماء الغربيين.

↵ فأول ما نبدأ به القول بأنه إذا كان المقصود بالتجرد من الاعتقادات والميول والأفكار أن يخلي العالم ذهنه من كل هذا ويقبل على بحثه بعقل مجرّد ، فهذا شرط يستحيل تطبيقه ، وعلى فرض إمكانه فإنه لا يكون شرطا لحصول العلم بل سببا في عدم حصوله.

“إن الكافر والمؤمن كليهما يعلمان بوجود الليل والنهار ، والشمس والقمر والنجوم ، والأشجار والأنهار ، ويعلمان كثيرا من الأسباب الطبيعية ويأخذان بها ، فهنالك إذن علم مشترك بين الإطارين. وإذن فما يعترف به الإطار الإلحادي من حقائق ليس شيئاً خاصاً به أو ناتجاً عنه وحده، وإنما هو أمر مشترك بينه وبين الإطار الإيماني لأنه ليس في الإطار الإيماني ما يمنع من إدراك أية حقيقة تدرك في حيز الإطار الإلحادي. لكن ميزة الإطار الإيماني – وهو إطار العقل الكامل – أنه يساعد على إدراك حقائق ومؤثرات وتفسيرات أخرى لها نتائج نافعة في حياة الناس العلمية والعملية والنفسية لا مجال لها داخل الإطار الإلحادي.” أ.د. جعفر شيخ إدريس

أقول أنه شرط مستحيل التطبيق لما يعلمه كل إنسان عن نفسه من أنَّه لا يتسطيع أن يكف لحظة واحدة وهو يقظان عن حديث مع نفسه أو حديث مع غيره وكلا الحديثين صادر عن أفكار واعتقادات ، فكيف والقضية التي يبحثها العالم قد تستغرق منه أشهراً بل سنين ؟ فهل يستطيع أن يكف طيلة أيام بحثه هذه عن حديث مع نفسه أو مع زوجه وأولاده وأصدقائه وزملائه؟

وهو سبب في عدم حصول العلم ، لأنَّ العِلم وإن سُمّي تجريبياً إلا أن التجربة والمشاهدة لا تكون – كما ينبه إلى ذلك المختصون المناهـج العلمية –  إلا في ضـوء سؤال أو افتراض.  إن العاِلم لا يبدأ بحثه بالمشاهـدة ولا بالتجربة ، ماذا يشاهد؟ وماذا يجرب؟  إنه يبدأ بفكرة ثم يشاهد من الطبيعة أو المجتمع ما يراه متعلقا بتلك الفكرة أو يجري تجربة معينة ذات علاقة بإثبات تلك الفكرة أو نفيها .

ولأن العلم كما يقولون أمر تراكمي أي أن الجديد المكتشف منه يضاف إلى قديم سبقت معرفته . بل إن القضية الجديدة التي يُراد البحث فيها إنما تنشأ عن معرفة سابقة ، والتجربة التي تجري تفترض صحة معلومات سابقة ، فلو أن كل باحث بدأ تجربته وهو خال الذهن حتى من تلك المعلومات الخاصة بمجال بحثه لما نمى العلم وما تطور.

↵ وأما إذا كان المقصود بالتجرد أن يكون الإنسان مستعداً لأن يقبل ما دلت عليه المشاهدة وما كان نتيجة للتجربة أو لازماً عقلياً من لوزامها، وأن يكون أميناً في نقل ما جرب وشاهد واستنتج وإن خالف ذلك اعتقاداً سابقا له أو للمجتمع الذي يعيش فيه ، وأما إذا كان المقصود به أن يشاهد الإنسان ويجرب بذهن متفتّح غير مقيد باعتقادات في باطنه تحدد له ما يمكن وما لا يمكن أن يكون ، وما يصح وما لا يصح من التفسيرات ، فهذا أمر ممكن مرغوب فيه بل هو في رأينا المثل الأعلى للمنهج العلمي . ولكن المثل الأعلى شيء وممارسات العلماء الواقعية شيء آخر ، كما ثبت ذلك لمؤرخي العلوم وفلسفتها من الغربيين ، ولعلنا نستطيع أن نجعل ما تقرّر في هذا المجال في أن العلماء الغربيين كانوا دائما يضعون أنفسهم  –  عن وعي منهم أو غير وعي  – في داخل أطر أيديولوجية ويتأثرون ببيئاتهم الاجتماعية وحقبهم التاريخية .

أُُطر العلم الإيديولوجية :

تختلف هذه الأُطر  في سعتها وشمولها :

فهنالك الإطار العام الذي يحدد للإنسان تصوّره العام للوجود ، وهناكل أُطر مختلفة داخل هذا الإطار الكبير بحيث أن الذين يشملهم هذا الإطار قد يختلفون في انتماءاتهم.

في ضوء الإطار الكبير الذي يمثل ما يسمّى في الاصطلاح الحديث بفلسفة الإنسان  في الحياة  ، يتحدد اعتقاد الناس لما هو موجود وما ليس بموجود ثم يتحدد تبعاً لهذا مفهومهم للعلم والمنهج العلمي والتفسير العلمي وما إلى ذلك من مفهومات أساسية.  فالعلم هو العلم بنوع الموجودات التي حددها الإطار ، والمنهج العلمي هو المنهج الذي يوصلنا إلى معرفة هذا النوع من الموجودات ، والتفسير العلمي هو الذي يعدّ ما يحدث لبعض هذه  الموجودات أثراً لموجودات أخرى من نوعها . وعليه فكل كلام عن موجودات غير التي حددها الإطار فهو كلام غير علمي ، وكل ما يدّعى أنه حق فلا بد أن يأتي عن طريق هذا المنهج العلمي ، وإلا فهو دعوى بغير دليل ، وكل تفسير لظاهرة من الظواهر التي حددها الإطار بسبب خارج  عن نطاق الموجودات التي اعترف بها فهو تفسير غير علمي.

إذا ما ساد إطار ما في بيئة ما أو عصر ما ، وتربّى عليه الصغار وشاب عليه الكبار غفل معظم العلماء وطلاّب العلم عن أنهم يعملون داخل إطار حددته لهم نظرة ما وراثية ، وأَعطَوا  مفهومات العلم والمنهج والتفسير العلمي التي درجوا عليها صفة الإطلاق والعموم ، وحسبوا أنها دون غيرها هي المفاهيم الصحيحة التي يجب على كل مبتغ للبحث العلمي أن يلتزم بها، وإلا فما هو بعالم . وعليه يصبح من اللازم على كل من يريد الانضمام إلى زمرة العلماء في تلك البيئة أو ذلك العصر ، أن يعمل في داخل هذا  الإطار، حتى  لو لم يكن مؤمناً به، وإلا كان من المبعدين عن زمرة العلماء ولا يكون إبعاده  – خصوصاً  في المجتمعات الديمقراطية-  بقرار سياسي ، ولكن بما يسمّى بالإرهاب الفكري ، والاستغراب وربما المقاطعة والسخرية ، إلى أن يأذن الله بأن يستبدل الإطار الفلسفي إطار جديد.

ما الإطار الفلسفي العام الشائع في عصرنا الآن ، والذي يعمل في داخله علماء الطبيعة والإنسان ؟

لكي نجيب على هذا السؤال ينبغي أن نتذكر أن هذه العلوم وإن تكن قد انتشرت اليوم في العالم كله ، إلا أنها في منشئها –  ومن غير إنكار للجهود التي سبقتها وأهمها جهود العلماء المسلمين  –  عمل أروبي وما زالت قيادتها الفكرية عند الغربيين.

ينبغي أن نتذكر أن هذه العلوم لم تستو على سُوقِها وتُؤتِ أُكُلَها إلا بعد معارك عنيفة مع الدين النصراني ممثلاً في الكنيسة ورجال الدين، وأن هذا الدين كان فيه شيء من الحق المختلط بكثير من الأباطيل ، وأن العقائد الدينية فيه كانت ممتزجة بالاعتقاد في السحر والكهانة ، وأن القائمين على هذا الدين من رجال الكنيسة كانت لهم مصالح دنيوية في أن ينفردوا بالسلطة التي يُرجع إليها في الأمور العلمية ، وأنه لما تغلب العلم الجديد في النهاية على النصرانية عُدّت غلبته عليها غلبة على كل تفسير خرافي لظواهر الطبيعة ، وعدّ الدين أيّا كان احد هذه التفسيرات لا فرق في ذلك بينه وبين السحر والكهانة والتنجيم وما إليها.

جاءت هذه العلوم إذن نتيجة صراع مع الدين ، وكانت كلما انتصرت عليه في معركة أمعنت في البعد عنه ، حتى أسس بنيانها في النهاية على قواعد مخالفة لقواعده ، كأن مؤسسيها كانوا يعتقدون أن كل قرب من الدين هو ابتعاد عن الطريق الصحيح  للعلم بحقائق الوجود . ولذلك وصفت هذه العلوم بأنه لا دينية أو دنيوية Secular ، في مقابل علم اللاهوت الذي يهتم بالدين وبأمور الآخرة ، وسميت بالعلوم أو الفلسفة الطبيعية إشارة إلى أن الطبيعة هي مجالها ، بل هي مصدرها الذي تأخذ عنه حقائقها ، وذلك في مقابل المصادر الدينية من وحي وعلماء الدين.

يرى أحد مؤرخي العلوم أن العلم مرّ في تطوره بمرحلتين : أولاهما مرحلة تطور  تقني حدث في القرن السادس عشر ، وثانيتهما مرحلة ثورة فلسفيّة حدثت في القرن السابع عشر . لكنه يقول “إن تصّور المعرفة الذي كان سائداً (يعني في القرن السادس عشر) كان لا يزال مختلفا اختلافا جذريا عن مفهومها اليوم” ثم يقول في شرحه لذلك المفهوم “بما أن العالم المحسوس كان متأثرا تأثر شديدا بالقوى الفاعلة الإلهية والجنيّة والسحرية ،كان الغوص في أسراره كذلك آثار من مهمة دنيوية ” ثم يقول معلقا على هذا الذي قرره وهو موضع استشهادنا “بما أن بعض جذور المفهوم الحديث للعلم كانت في الصراع ضد هذه النظرة إلى العالم ، فمن الصعب أن نتصور كيف كان من الممكن وجود نظرة علمية في داخلها . وعلى كل فإن المؤرخ يسلط حبيس مقولاته المؤقتة إلى أن يتسنّى له الوصول إلى تفاهم مع هذه النظرة.”

أما الثورة التي أشار إليها فهي التي قادها بيكون الإنجليزي ، وجاليلي الإيطالي ، وديكارت الفرنسي وهي التي جاءت بنظرة جديدة إلى الوجود مخالفة للنظرة المسحية فحواها أن عالَم الطبيعة عالَم ميت خال من أي خصائص روحية أو شبه بشرية ، وأنه ليس من الممكن لذلك أن يكون بيننا وبين الطبيعة أي نوع من الجوار سواء عن طريق الكشف الروحي أو الوحي الإلهي.  واتفق جاليلي وديكارت على أن العالَم مكوّن من أجزاء مادية هي من الصغر بحيث لا يمكن أن ترى ، وأن الظواهر الكونية كلها هي نتيجة تفاعل بين هذه الأجزاء التي لا إدراك لها ولا هدف ، وأن تفاعلها لذلك هو بمثابة التصادم الذي يحدث بين مجموعة من الكرات.

 ولكن حتى في ذلك القرن كانت الصلة ما زالت وثيقة بين العلم الجديد والدين ، لأن العلماء والفلاسفة كانوا لا يزالون يصفون القوانين التي تحكم الظواهر الطبيعية “قوانين خلق الله” ولأن روّاد الثورة الفلسفية الجديدة ، ونيوتن الذي جاء بعدهم ، والذي وضع علم الفيزياء الحديث ، كانوا جميعاً من المؤمنين بالدين المسيحي . لم تكن هذه الفلسفة إذن نتيجة العلم الجديد ، كما قد يتبادر إلى أذهان الكثيرين ، “وإنما كانت تسليماً مسبقا بمبدأ  ميتافيزيقي” هو الذي وضع  – مع نهاية القرن السابع عشر  – الثقافة الأوربية ، بما في ذلك العلوم الطبيعية على طريقة العلمانية الكاملة”

نعود إلى سؤالنا مرة أخرى : ما الإطار الفلسفي الذي تُوضع فيه العلوم في عصرنا؟ إنه كما رأينا :

1- إطار فلسفة لا دينية ، فلسفة ترى أن الظواهر الكونية ينبغي أن تفسر بأسباب من داخل هذا الكون ، أي بأسباب طبيعة لا دخل فيها للإرادة الإلهية ، ولا للتجارب الروحية . وإذن فعل العالم الطبيعي أن يبدأ باستبعاد مثل هذا التفسير ، أي إن عدم فاعلية القدرة أو الإرادة الإلهية ليس شيئا استنتجه العالم من دراسته للطبيعة وإنما هو شيء يبدأ بافتراضه ثم يُحاول أن يبنى عليه مشاهداته ونظرياته . هذا أمر يعرفه ويعترف به كثير من العلماء وفلاسفة العلم الغربيين.

أ-  يرى أحدهم مثلا أن دارون في محاولته إيحاد نموذج لنظرية يفسر بها تطور الكائنات الحية “كان يبحث عن عملية طبيعية صرفة لا يتضمن أنموذجها تدخل القدرة الإلهية”.
ب- ويرى آخـر أن تفسير دركايم للظـاهرة الدينية بإرجاعها إلى فكرة التضامن مع النظـام الاجتماعي مبنيٌ على حجة إلحادية فحواهـا أن “الأشياء التي يذكرهـا المنتمون إلى دين ما ، يجب أن لا تؤخـذ على أنها إخبار عن الله  –  لأنه من حيث المبدأ  –  لا يمكن أن يكون هنالك إخبار كهذا . وعليه فيجب تفسيرها بطريقة أخرى ، والتفسير الذي يقترحه دور كايم هو أنها تعبير عن الإخلاص للنظام الاجتماعي”.

2-  وهي ليست فلسفة لا دينية بمعنى سلبي ، بل هي فلسفة معادية للدين ينتقده أنصارها باسم العلم، ويهاجمونه ويسعون لمحاصرته ، ويعملون جاهدين على إبعاده عن مجال العلم، ويحرصون على رفض كل نظرية علمية يخشون أن يكون فيها شيء من التأييد للدين.

أ-   يقول فرد هويل أن علماء الأحياء التقليديين لن يقبلوا نظريته في التطور المخالفة لنظرية دارون، والتي فحواها أن تطور الأحياء على أرضنا لا يسير بالمصادفة وبلا هدف كما تدّعى تلك النظرية، بل أن سيره محكوم بقوى واعية خارج أرضنا ، يقول أن هؤلاء العلماء لن يقبلوا هذه النظرية ، رغم وجود جبال من الأدلة على صحتها ، لأنها قد تؤدي إلى إيحاءات دينية، “ولأن العلماء التقليديين مهتمون بمنع الرجوع إلى الغلّو الديني الذي حدث في الماضي، أكثر من اهتمامهم بالتطلع إلى الحقيقة. إن النظرة الجهنمية التي وصفناها آنفا قد سيطرت على التفكير العلمي خلال القرن الماضي كله.”

لكن معظم الباحثين في صلة العلوم الطبيعية أو الإنسانية بوجهات النظر الفلسفية والقيم والمعتقدات الغيبية اكتفوا ببيان هذه الصلة في نظريات علمية معينة، إما لمجرد بيان الأصل التاريخي للنظرية، أو لاتخاذ هذا البيان ذريعة إلى نقد النظرية. واليكم الآن أمثلة مما قالوا أظن أن بعضها سيكون مثار دهشة للقراء:

قالوا إن نظرية مالتس المشهورة التي انتهي فيها إلى أن الفقر والعناء أمور حتمية ناتجة عن أن عدد السكان يزداد بمتواليات هندسية، بينما الموارد الغذائية تزداد بمتواليات حسابية، كانت في الحقيقة احتجاجاً على قوانين صدرت لصالح الفقراء. ثم جاء سبنسر فحوّل نظرية مالتس إلى نظرية في التطور الاجتماعي ، فحواها أن الطبيعة تنتخب أو تنتقي الأصلح للبقاء، وتتخلص مما سوى الصالحين ، قال ” إذا كانوا كاملين بحيث يصلحون للحياة فإنهم سيحيون ، ومن الخير أن يحيوا؛  وإذا لم يكونوا كاملين بما يهيئوهم للحياة فسيموتون، ومن الخير أن يموتوا” . هذا ما في رأيه هو مجرى الأمور الطبيعي الذي ينبغي أن لا نتدخّل فيه.

أظن أن الكثيرين منكم تذكروا قول الله تعالى عن الكفار {وإِذا قِيْلَ لهم أنفِقوا مما رَزَقكم الله، قال الذين كفروا للذين آمنوا أنُطعِمُ من لو يشاء اللهُ أطعمه إنْ أنتم إلا في ضلالٍ مبين} [يس:47].

ثم جـاء دارون  فاسـتـفـاد من النظـرتين ، ففسـر التطــور في عـالـم الحيـوان بالانتخـاب الطبيعـي ثـم عـاد سبنسر وأصحابه فوجـدوا في نظـرية دارون تأييداً علمياً لنظريتهـم الاجتماعيـة، التي سـُميت بعد ذلك بالدّارونية الاجتماعيـة، وقالـوا إن هنالـك صلة بين تفسـير دارون للصفات المفتقـة وبين المذهـب الفـردي الذي كـان سائدا آنذاك في النظـريات السياسية البريطـانية ، وأن الأصل في هذا التفسير هو الدفاع عن تقسيم العمل الذي دعا إليه آدم سميث، وأنه بهذا التفسير حوّل نظرية سياسية إلى صورة للعالم الطبيعـي.  ولذلك قال انجلز ” إن كل ما فعلـه دارون في قولـه بالصـراع من أجـل البقاء هو أن حـوّل من المجتمع إلى الطـبيعة مبدأ هـوبز القائل بالمبدأ الاقتصادي البرجوزاي في التنافس، ونظرية مالتس في السُكان ثم لما اكتمل أداء عملية الساحر هذه … حُولت النظريات نفسها مرة أخرى من الطبيعة العضوية إلى التاريخ وادُعّى الآن أن البرهان قد قام على صدقها بكونها قوانين خالدة للمجتمعات الإنسانية.”

وقـريب من قـول انجـلـز هذا رأي الفلـكـي الفيزيائـي المعاصـر فـرد هـويـل الذي يقـول في كتـاب لـه حـديـث  “بإمكاني أن أبدا ببياني أن أفكار نظرية دارون كان قد سبق أن احتلت لها مكانا  منذ عام 1830 ، أي قبل ما يقرب من ثلث قرن قبل نشر كتاب “أصل الأنواع” لدارون في عام 1856 ، ولكن بينما كانت الأفكار قد وجدت فإن حال المجتمع لم يكن قد تهيّأ لها . كانت هنالك حاجة إلى تغيير مهم قبل أن تستدعي هذه الأفكار  ، ثم يبين أن هذا التفسير كان في ظهور الشركات التي كانت تتنافس في تجويد منتجاتها ، لأن هذا التجويد كان وسيلة البقاء بالنسبة لها . ثم يقول “لقد كانت الخطوة قصيرة من تجربة عملية في التجارة إلى مفهوم تحسين النوع عن طريق الانتخاب الطبيعي ، ثم يعلق على هذا التشابه تعليقا مهما فيقول “إن كل الناس  – إلا قلة من العلماء  –  أغفلوا خطوة خطيرة في قياس الانتخاب الطبيعي على الانتخاب التجاري . إن الانتخاب التجاري إنما يحدث لأن وراءه عقول بشرية تدأب على تحسين نوع منتجاتها ومداها . الانتخاب التجاري بعيد إذن كل البعد عن الانتخاب الطبيعي ، ذلك الشيء الذي لا هدف له كما يفترض في علم الأحياء” .

اختلافات داخل الأُطر :

وإذا كانت الأطر الأيديولوجية تختلف من عصر إلى عصر ، فهنالك اختلافات بين العلماء داخل الإطار الواحد وفي نفس العصر الواحد:

⇐ أ-  فهنالك اختلافات وطنية ، ومما يذكرونه في هذا المجال مقال كتبه الفيزيائي الفرنسي بيير دويم قارن فيه بين طريقة الفيزيائيين النظريين في كل من بريطانيا وفرنسا في تناول المشكلات المتعلقة بالنظريات الكهربائية . فأوضح فيه ان الفرنسيين يميلون إلى وضع هذه النظريات في قالب رياضي بينما يميل البريطانيون إلى البحث عن نماذج عملية تساعد على فهم الظواهر الطبيعية بطريقة مرئية أو حسية غير رياضية . وقال إن هذين الاتجاهين ليسا قصرين على علم الفيزياء بل يشملان مجالات فكرية وحياتية أخرى.

⇐ ب-   واختلافات في دلالات التجارب ، خذ مثلاً لذلك التجربة التي تجري على الفئران فيما يسمى بصندوق اسكتر (نسبة إلى العالم  السلوكي الشهير)، هذا صندوق مزوّد بجهاز فيه قضيبين كلما ضغط عليه الفأر سقطت إليه قطعة طعام ، فلوحظ أن الفأر يظل يردد ضغطه على القضيب ويأكل قطع الطعام الساقطة إليه حتى إذا شبع كف عن الضغط.

يستنتج السلوكيون من هذه التجربة وأمثالها أن السلوك الحيواني  – بما في ذلك سلوك الإنسان  –  يقوم على قاعدتين هما:

التنبيه “الضغط على القضيب”، والاستجابة “وصول الطعام”.

ويستنتجون من ذلك أنه لا داعي لافتراض مؤثرات غير مادية كالقرار والإرادة وحتى العقل .

لكن خصوم السلوكيين يقولون إن ما استنتجوه من أمثال هذه التجارب ليس هو كل ما تدل عليه المشاهدة وأن هنالك تجارب أخرى تدل على أن دوافع الأفعال ليست محصورة في توقع هذه الجزاءات المادية . فيقول أحدهم :

“إن كل من درس حيواناً في صندوق اسكتر يلاحظ أولاً أن الضغط على القضيب يستغرق أقل قدر من وقت الحيوان، فهنالك بالإضافة إلى هذا أنواع أخرى من السلوك المميز للحيوان، كالجري ، والانتصاب على الرجلين الخلفيتين، والاستشمام، واستكشاف الصندوق ، إن علماء النفس السلوكيين يعتبرون كل نوع من هذه الأنواع السلوكية أجنبيا على موضوع التجربة من الناحية العلمية . إن السلوك الوحيد الجدير بأن يشار إليه فيما يبدو هو عدد المرات التي يضغط فيها الفأر على القضيب لينال مكافأة هذا العمل. إن الذي يحدث في هذا الوضع  المصطنع هو أن المجرّب قد اعتمد على تعريف انتقائي للسلوك”.

وأما إذا أخرجنا الفأر من هذا الوضع المصطنع وتركناه على طبيعته بأن وضعناه على منضدة مثلا فإن هذا التعريف المنتقى لا يصلح لتفسير سلوكه ، ثم يذكر أمثلة أخرى تدل على أن السلوك الحيواني لا يمكن أن يفسر كله في نطاق أنموذج التنبيه والاستجابة ، ثم يقول : ” منذ أكثر من خمس وعشرين عاماً والسلوك الإنساني يفسر على أساس فهم خاطئ لمشاهدة الفئران والجرذان .

⇐ ج- إن العلوم الطبيعية التجريبية أضبط   – كما هو معروف – من العلوم الاجتماعية والإنسانية، وأكثر العلوم الطبيعية دقة وأقربها إلى المثال الرياضي وأساسها وقاعدتها هو علم الفيزياء ، لكن حتى هذا العلم المثالي بعيد كل البُعد عن تلك الصورة الساذجة الشائعة. والفيزيائيون بشر يخطئون، بل قد يجمعون على الخطأ لفترة من الزمان، فقد كانوا جميعاً إلى قُرب نهاية القرن التاسع عشر يعتقدون بوجود مادة اسمها الأثير تملأ كل مكان بين الكواكب ، وكل مكان بين النجوم ، وتمثل الوسيط الذي ينقل الموجات الكهرومغناطيسية ، حتى لقد قال الفيزيائي الاسكتلندي الشهير ماكسول (الذي اكتشف المعادلات الأساسية التي تحكم القوى الكهربائية والمغناطيسية):

“مهما كانت الصعاب التي نجدها في إعطاء صورة متسعة لتكوين الأثير فليس هناك من شك في أن المكان بين الكواكب أو بين النجوم ليس فارغاً بل يحتله جوهر مادي أو جسم هو بالتأكيد أكبر وربما كان أكثر الأجسام التي نعرفها تماثلاً واتساقاً.”

وهذا شيء طبيعي ، فالذي يميز العالِم سواء كان عالِم طبيعة أم مجتمع أم شريعة ليس هو العصمة من الخطأ وإنما الإذعان للدليل والرجوع عن الخطأ. وإذا كان الفيزيائيون يخطئون فإنهم أيضاً يختلفون في تفسيرهـم لما يشاهـدون ويُجـربون، وقد تكون أقوالهـم في المسألـة الواحـدة أكثر من أقـوال الفقهـاء وأشد تناقضاً ، فهؤلاء علماء الميكانيكا الكمية يختلفون في الحقيقة التي تدل عليها حقائقها الواقعية إلى أقوال أوصلها بعضهم  إلى ثمانية ، فمنهم من يقول إنها تدل على أنه ليس وراء الظاهر الشاهد من حقيقة أعمق ، ومنهم من يرى أن الحقيقة تحدثها المشاهدة ، ومنهم من يرى أن الحقيقة كل لا يتجزأ، ومنهم من  يرى أن هنالك عدداً متزايداً ومتوارياً من العوالم،  ومن يرى أن العالم مبني على منطـق غير المنطـق البشري المعهـود، ومن يرى أن العالـم مكّون من أشـياء مثل الأشـياء المعهـودة في  العالـم المشاهد، ومن يرى أن الحقيقة ينشئهـا الوعي، ومن يرى أن العالم مـزدوج فهو مكّون مما هـو بالقوة وما هو بالفعل. والذين قالوا بكل هذه الأقوال والذين قالوا أنه قد تكون الحقيقة مخالفة لكل هذه الأقوال ليسوا فلاسفة ولا رجال دين وإنما هم فيزيائيون مختصون بل أن بعضهم من كبار رجال هذا العلم ومؤسسيه.

 مسوّغات إسلامية :

بعض إخواننا من دعاة إسلامية العلوم يعجبهم اعتراف الغربيين هذا بعسر الموضوعية أو تعذرها ، ويرون فيه أكبر مسوّغ لدعوتهم ، فكأنهم يقولون للغربيين : إذا كنتم تنظرون إلى الواقع من خلال أيديولوجيتكم وفلسفاتكم وتفسرونه في ضوئها ، فلماذا تعيبون علينا أن نفعل ما تفعلون؟

هذه حجة ضعيفة غايتها أن تفحم الخصم لكنها لا تصلح أن تكون مسوّغا لإسلامية العلوم لأنه يلزم عنها.

↵ 1- إما القول بعدم وجود حقيقة موضوعية نسعى لإدراكها ولذلك يجوز لكل إنسان أن يقول ما شاء حسب دينه ومذهبه وهواه ، وهنا يكون الموقف أسوأ من موقف جماهير العلماء والفلاسفة الغربيين ، لأنهم وإن اعترفوا بعسر الموضوعية لكنهم لا يقولون باستحالتها.

↵ 2- أو القول بأن هناك حقيقة موضوعية لكنه من المتعذر معرفتها كا هي . بل أنها لا تدرك إلا مصطبغة بصبغة المنظار الإيديولوجي الذي يضعه المشاهد على عينيه .

↵ 3- بل يلزم عنها التشكيك في الحقائق الكبرى التي يقوم عليها الدين نفسه ، لأننا لا نريد أن نقول أن الإيمان بالله وبالدار الآخرة وبنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم إنما هو وجهات نظر لجماعة من الناس يُسمون بالمسلمين، وأنها ليست حقائق موضوعية يمكن أن يُقام عليها دليل عقل صحيح.

إن مسوّغ الإسلامية لا يقوم على التسليم بالنسبية أو القول بالذاتية لأن اختلاف الأطر من عصر إلى عصر ، ومن بيئة ثقافية إلى بيئة، ومن حضارة إلى أخرى، لا ينهض دليلاً على المساواة بينهما أو على استحالة تقويمها هي نفسها تقويما عقلانياً.

إن مسوّغ الإسلامية يقوم على الاعتقاد بأن الموضوعية ممكنة، وأن بعض الأطر – بالقياس العقلي-  خير من بعض، وأن الإسلامي –  بالقياس العقلي-  هو خير  تلك الأطر وأصلحها.

لكن صلاحية الإطـار الإسلامي لا تعني أن الأُطرَ الأخـرى تحول دون إدراك أية حقيقة بموضوعية أو تصبغها بصيغتها ، لأن الإنسان مهما بلغت اعتقاداته من الفساد يظل قادرا على إدراك بعض الحقائق واكتساب نوع من العلم ، يقول الله تعالى عن منكري الآخرة {يَعْلمون ظَاهِراً مِنْ الحياةِ الدنيا وَهُم عن الآخرةِ هُم غافلون} [الروم:7] .  فهم إذن يعلمون شيئاً مما يتعلق بالحياة الدنيا رغم حبسهم لأنفسهم في إطار لا يعترف بوجود دار آخرة .

لكن هذا الإطار يحول دونهم ودون إدراك حقائق أخرى {ولَقَدْ أَتَوا على القريةِ التي أُمْطِرت مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلمْ يَكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نُشُوراً} [الفرقان40] (أَفَلمْ يَكونوا يرونها؟) بلي كانوا يرونها وكيف لا يرى ذو عينين قرية وهو يمر عليا ؟ إنهم يرونها فيعلمون شيئا هو الذي وصفته الآية الأولى بالعلم الظاهر ، لكن إنكارهم للآخرة يحول دونهم ودون تفسير هذا الذي يرونه تفسيراً صحيحاً، يحول دونهم ودون إدراك ما يدل عليه ويشير إليه هذا الواقع المشاهد.

وعدم الإدراك هذا نقصان في العقل سببه ذلك الإطار الذي يُنكر الآخرة، قال تعالى: { ولَقَد تَّركنا منها} [العنكبوت:35]  أي من تلك القرية، {آية} أي دليلاُ وشاهداُ {لقومٍ يعقلون}  فرؤية ما بقى من القرية على أنه آية يحتاج إلى كمال في النظرة العقلية لا يتأتى لمن يحبس نفسه في إطار إيديولوجي لا مجال فيه للآخرة .

في ضوء هذه الحقيقة يمكن أن نجيب على شبهة كثيرا ما تُذكر لتأييد الإطار الإلحادي أو لإنكار الإطار الإيماني . يقول أصحاب هذه الشبهة إن العلوم الطبيعية قد حقق إنجازات كبيرة ، فنقول نعم . ويقولون : ولو لم تكن قائمة على حق في تقريرها للواقع وفي تفسيرها له لما نتجت عنها هذه الإنجازات؟ ثم يخلصون إلى القول بأن  هذا دليل على صحة الإطار الإلحادي الذي وضعت فيه أو يدل على أقل تقدير على أن هذا الإطار هو الإطار المناسب لمثل هذه العلوم وإن كانت  له مشكلاته في مجالات أخرى.

هذا الكلام  يصح حجة على من يزعم أن الملحد لا يمكن أن يدرك أي نوع من العلم. وقد قلنا بغير ذلك .

ويصح لو ثبت أن ما أدرك في حيز الإطار الإلحادي من علوم لا يمكن أن يدرك في حيز الإطار الإسلامي ولا دليل على ذلك .

إن الكافر والمؤمن كليهما يعلمان بوجود الليل والنهار ، والشمس والقمر والنجوم ، والأشجار والأنهار ، ويعلمان كثيرا من الأسباب الطبيعية ويأخذان بها ، فهنالك إذن علم مشترك بين الإطارين.

وإذن فما يعترف به الإطار الإلحادي من حقائق ليس شيئاً خاصاً به أو  ناتجاً عنه وحده، وإنما هو أمر مشترك بينه وبين الإطار الإيماني لأنه ليس في الإطار الإيماني ما يمنع من إدراك أية حقيقة تدرك في حيز الإطار الإلحادي.

لكن ميزة الإطار الإيماني  – وهو إطار العقل الكامل –  أنه يساعد على إدراك حقائق ومؤثرات وتفسيرات أخرى لها نتائج نافعة في حياة الناس العلمية والعملية والنفسية لا مجال لها داخل الإطار الإلحادي.

والدعوة إلى إسـلامية العلوم هي إذن دعــوة إلى تأكيد الموضــوعية لا إلى التخلـي عنها ، لأنها دعـوة إلى أن يكون إطـارها الفلسفـي نفسـه قـائماً على حقائـق موضـوعية، إنها دعـوة إلى أن يفكـر العالـم ويشاهـد ويـجـرب ويستنتـج وهـو مؤمن بالله ، وبأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن القرآن كلام الله ، لأن هذه نفسها حقائق موضوعية عنده دليل عقلي على صحتها ، إنها ليست دعاوى اعتقادية بل هي إيمان بقوم على علم {فاعلمْ أَنَّهُ لا إِلَه إِلا الله} [محمد:19]

{وليعلمَ الذين أوتوا العِلمَ أنَّه الحقُ مِنْ رَبِكَ فيؤمِنُوا بِهِ فَتُخبِتَ له قلوبُهم وإنَّ الله لَهَادِ الذين آمنوا إلى صِراطٍ مُستَقِيم} [الحج:54]   .

وإذا كان بعض الناس لا يؤمن بهذه الحقائق لجهلهم بها أو لعنادهم ، فإن الباحث المسلم لا يرجئ إيمانه بها حتى يذعن الآخرون جميعا ويسلموا ، كما أن أصحاب الإطار الإلحادي لم ينتظروا حتى يصير الناس جميعا ملحدين . بل أن إيمانه بها وإعلانه لهذا الإيمان وهو يبحث ويفكر ويجرب ويكتب ويناقش سيكون من أقوى الأدلة على أنه لا تناقض بين البحث العلمي والاعتقاد الديني الإسلامي ، بل إن ما ينتج عن الالتزام بهذا الإطار من ثمار علمية واقعية ونظرية سيكون هو نفسه من أقوى الأدلة على فضله وتفوقه على الإطار الإلحادي المادي.

وإذا كان المسلمون الممارسون للعلم سيفعلون ذلك وهم متفقون على صحة الإطار الإسلامي ، فإن إخوانهم المشتغلين بفلسفة العلوم وتنظيرها ومناهجها، أو الجامعيين بين الأمرين جميعا سيهتمون بالحديث عن هذا الإطار وإثبات حقائقه وبيان فضله على غيره من الأطر ، أي أن ما كان يسمى بعلم الكلام أو علم أصول الدين سيكون كثير منه جزءا مما يسمى اليوم بالفلسفة العلمية . وهذا لم يُعد اليوم أمرا غريبا . لقد تطورت بعض العلوم  – سيما الفيزياء والأحياء  –  إلى حد جعل كثيرا من المشتغلين بها يضيقون بالإطار المادي ، ويفتحون باب الحديث مرة أخرى عن دلالتها على وجود الخالق سبحانه وتعالى ، وقد كان مجرد الحديث في هذه الأمور يُعد  –  إلى عهد قريب  –  نوعا من الخيانة للعلم ، بل كان يقال أن السؤال عن وجود خالق للكون سؤال غير مشروع فضلا عن أن تكون له إجابة صحيحة أو خاطئة.

وحين يُبيِّن المُنظّر أو الفيلسوف المسلم فضل الإطار الإسلامي  على غيره  فإنه لا يتحدث لإخوانه المسلمين فحسب، ولا يقول إن الإطار الإسلامي صالح لعلم دون علم، أو لأمة دون أخرى ، بل إن هدفه أن يبين صلاحية هذا الإطار للبحث العلمي أيّا كان ، وللباحث أيّا كان.

وعليه فمن الخطأ أن ينظر إلى إسـلامية العلوم على أنها علوم خاصة بالدين الإسـلامي ، أو بأحوال المسلمين الراهنة ، أو بتاريخهم ، فهذا خطأ ، أولا لأنه يسلم بصحة النظرة النسبية ، فكأنه يقول للغربيين أن نظرياتكم  في العلوم الإنسانية صالحة لمجتمعاتكم ونظرياتنا صالحة لمجتمعاتنا . إن العالم الغربي الذي يؤمن بالموضوعية يعتبر نظريته صالحة لتفسير الظواهر التي يتحدث عنها حينما وُجدت ، ولا يعتبر علمه خاصاً بالمجتمعات الغربية ، كما أن زميله في العلوم الطبيعية لا يعتبر علمه علما غربياً بمعنى أنه يصلح للغربيين وحدهم، أو يفسر الظواهر الطبيعية المتعلقة ببلادهم.

إن عالم الاجتماع الغربي يعتبر ” القوانين ” التي توصل إليها قوانين للمجتمعات الإنسانية أيّاً كانت، ونحن كذلك نريد أن نضع أنفسنا في الإطار الإسلامي ونحن نبحث في علوم الفيزياء والكيمياء وسائر العلوم الطبيعية ، وأن نضعها في هذا الإطار ونحن نبحث في علم النفس الإنسانية وعلم الاجتماع الإنساني وعلم الاقتصاد الإنساني وعلم التاريخ الإنساني ، لا نفوس المسلمين ومجتمعات المسلمين واقتصادهم وتاريخهم فحسب.

إن الــقـرآن الكريــم يتـحــدث عـن الإنسـان في أصـلـه الـفـطـري : الإنـسـان الـمـســلـم ، وغـير الـمسـلـم ، فحـين يـقـول الله تـعالــى: {إنَّ الإنسان خُلِق هَلُوعاً إذا مِسهُ الشرُ جَزُوعاً  وإذا مَسَّه الخير منوعاً} [المعارج:19-21]

فإنه لا يعني الإنسان المسلم ، لأنه يقول بعد ذلك: {إلاّ المُصَلِين} [المعارج:22] .  بل إنه لا يتحدث عن الإنسان في أصله الفطري لأنه تعالى يقول في آية أخرى: {ونَفسٍ وما سَوَّاهَا} [الشمس:7]  والرسول صلى الله عليه وسلم  يقول : ” كل مولود يولد على الفطرة ” .

ومن هنا نخرج بتصور عام للإنسان فنقول إنه في أصله الفطري ، كذا وكذا ، وإذا حاد عنه صار كذا وكذا ، وإذا اسلم كان إسلامه امتدادا لذلك الأصل فصار كذا وكذا .

وكذلك حين يقول الله تعالى: {إنّ الله لا يُغيرُ ما بِقَومٍ حتى يُغيروا ما بأنفسهم} [الرعد:11]  فإنه يعطينا قانوناً اجتماعياً عاماً شاملاً لكل المجتمعات الإنسانية وليس خاص بالمجتمعات الإسلامية.

إن ميدان علماء الاجتماع المسلمين لا يقتصر على المجتمعات الإسلامية، بل يشمل المجتمع الإنساني كله ، بما في ذلك المجتمعات الغربية ، فهم يبحثون في مشكلاتها الاجتماعية والنفسية ، ونُظمها السياسية ، وعلاقاتها الاجتماعية والدولية ، وتاريخها ، ومستقبلها ، ويطلعون على ما يكتب علماء الاجتماع الغربيون ويناقشونهم ، لكنهم يفعلون كل ذلك وهم مستشعرون لإيمانهم بالله وبأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن القرآن كلام الله، كما أن الباحث الغربي يدرس تاريخ المسلمين وواقعهم الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي وقد وضع نفسه في إطار غير الإطار الإسلامي.

والإطار الإسلامي لن يعصم العالم المسلم من الخطأ، ولن يجعل كل ما يقوله موافقاً للإسلام، ولن يمنع من تعدد الآراء والنظريات واختلاف العلماء المسلمين وتخطئة بعضهم لبعض ، لأنه إذا كان كل هذا يحدث في مجال الفقه “والأدلة الشرعية التفصيلية أقرب إليه” فكيف لا يحدث لمن لا يملكون مثل هذه الأدلة التفصيلية ولمن يكتفون  –  في معظم الأحيان   –  بمجرد وضع علمهم في داخل الإطار الإسلامي.

وإذا كانت الدعوة إلى إسلامية العلوم لا تخالف الموضوعية بل تؤيدها ، فإنها تضع للعالم المسلم حلاً لمشكلة نفسية لا يشعر بها العالم الملحد و لكن يشعر بها كثير من العلماء المؤمنين بالنصرانية أو المعتقدين في وجود الخالق وفاعليته.  أعني مشكلة الانفصام بين شخصية الإنسان وهو يبحث في مجاله العلمي ويكتب ويناقش، وشخصيته وهو يتلو كتاب الله تعالى ويصلى ويصوم ويتزوج ويعاشر الناس.

والانفصام سببه أن الحالة الأولى تفرض عليه أن ينسى إيمانه أو يعلقه، والحالة الثانية تدعوه إلى أن يذكر هذا الإيمان ويستشعره. والإنسان لا يرتاح إلى الشتات في الأمور الفكرية، فكيف به في الأحوال النفسية؟

فإذا كان العلماء الطبيعيون يبحثون  – تخلصاً من الشتات  وسعياً إلى الوحدة- عن مبدأ واحد أو نظرية واحدة ترجع إليها سائر النظريات الأساسية حتى تفسر مظاهر الطبيعة بمبدأ واحد ترجع إليه حقول القوى الطبيعية الأربعة المعروفة حتى الآن، أعنى الجاذبية والكهرومغناطيسية والحقل القوي والحقل الضعيف”

وإذا كانوا يبحثون وراء مظاهر المادة المختلفة الأشكال والألوان والأحجام والخصائص عن اللبنات الأساسية التي ترجع إليها هذه المظاهر ، أفلا يسوغ  –  بل أليس من الأحرى  –  أن يبحث العالم عن تصور الكون  بجمع شتات نظراته الطبيعية والاجتماعية والفردية ، بحيث لا يعيش في انفصام بين شخصه وهو باحث علمي ، وشخصه وهو رجل اجتماعي ، وشخصه وهو رب أسرة ، وشخصه وهو متأمل في ذاته أو متذوق للجمال أو ملتزم بالأخلاق أو مدافع عن الحقوق؟

إنَّ المبدأ الذي يجمع هذا الشتات هو مبدأ التوحيد، مبدأ الإيمان بالله واحداً لا معبود بحق سواه، والإيمان بأن  طريق محمد صلى الله عليه وسلم هو وحده الطريق الموصل إلى الله.

اظهر المزيد

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى