أدبنقد

الأثر النفسي للمنهج التفكيكي في شعر ما بعد الحداثة

مقدمة

ظهرت فلسفة (ما بعد الحداثة) في العالم الغربي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، مع ظهور مسرح اللامعقول، وظهور الفلسفات العدمية واللاعقلانية واللاشعورية كالعبثية والسريالية والوجودية.
وقد مثلت (التفكيكية) نقطة الانعطاف التاريخية، التي حصل فيها الانقلاب الكامل على فلسفة الحداثة، للتحول إلى الفلسفة المضادة في مرحلة ما بعد الحداثة والتي حملت رايتها عند العرب قصيدة النثر .
لقد حدث هذا الانقلاب في المرحلة التي بدأت فيها قصيدة التفعيلة في ما سمي بالشعر (الحر) بالاستقرار والرسوخ في الذائقة العربية، لكن على الرغم مما وفرته هذه القصيدة من حريات الكتابة من حيث الشكل الإيقاعي والمضمون، فإنه لم يغن عن المطالبة بالمزيد من الحرية . تلك الحرية التي انقلبت إلى انفلات معنوي فلسفي خطير، لم يشهد له الشعر العربي مثيلا قبل أن يشهد عصر قصيدة النثر في مرحلة ما بعد الحداثة .
ويسعى هذا المقال للتنبيه إلى تجارب الأزمات النفسية العديدة المحتملة ، التي خلّفها التأثر بفلسفة المنهج التفكيكي عند شعراء قصيدة النثر .

المنهج التفكيكي أسسه عام (1960م) الفيلسوف اليهودي الجزائري/ الفرنسي جاك دريداJacques Derrida (مولود عام 1930م)، ردا على الفلسفة البنيوية (البنائية) التي كانت سائدة في الخمسينيات من القرن العشرين في فرنسا . لكن على الرغم من أن التفكيكية هي في الأصل منهج فلسفي نقدي إلّا أنها تعدّت عند تطبيقها وظيفة النقد في قراءة النص، لتتدخل في صميم إنشاء النص من حيث هي فلسفة ، وأصبح النص التفكيكي الممثل (بقصيدة) النثر أقرب ما يكون إلى سيل من الهذيان، يشبه الأعراض التعبيرية اللغوية المرافقة لأمراض نفسية مزمنة كالهستريا والعصاب .
وقد تفاقمت تلك الأعراض المرضية مع الوقت بسبب التمسك بها والاستغراق فيها، إلى درجة لا يطيقها بعض ذوي الذائقة المعتدلة من القراء.

مؤاخذة الحداثة بجريرة ما بعد الحداثة:

من المؤكد أن قسما كبيرا من الشعر العربي الذي سمّاه النقاد عموما بالشعر الحديث أو (المعاصر ) والذي كتبه وبشر به كل من أدونيس وأنسي الحاج ويوسف الخال وبول شاوول وشوقي أبو شقرا وجبرا إبراهيم جبرا وسواهم، من خلال مجلة شعر عام(1957)، إنما ينتمي بشكله ومضمونه ومفاهيمه إلى المرحلة (ما بعد الحداثية)، وإلى أطروحات المنهج التفكيكي على وجه الخصوص .

يقول الناقد د. ناصر سليمان الغامدي في مقدمة كتابه (الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها) إنه بعد النظر في كتب أهل الأدب الحديث، تبين له أن: ” أكثرهم يطلقون لفظ المعاصرة و(الأدب المعاصر) على أدب الحداثة”(1).
لكن الغامدي نفسه استعرض في هذا الكتاب عددا كبيرا من عناوين مؤلفات عربية في النقد ، عالجت كلها تأثيراتٍ تنجم في حقيقتها عن فلسفات مرحلة (ما بعد الحداثة) في الشعر والنقد، مستخدما مصطلح (الحداثة ) ،وليس (ما بعد الحداثة) ( 1).

إذن، فثمة شبه توافق على الدمج بين مصطلحي الحداثة وما بعد الحداثة، وثمة عدم انتباه إلى ضرورة التمييز بينهما . ولا ريب أن هذا الدمج هو السبب في تشويش فهم المتلقي لوجهات نظر الشعراء والنقاد، فيما يتعلق بقبول، أو رفض بعض الشعر الحداثي (الحديث)، الذي ما كان ليشار إليه بأصابع الاتهام ، لولا المثالب التي ألصقها به الشعر التفكيكي ما بعد الحداثي،بسبب التباس المصطلحين .
وربما يعود سبب الالتباس بين المصطلحين ( من وجهة نظري ) إلى أنه على الرغم من نشوء المنهج التفكيكي متأخرا (عام 1960)، إلاّ أنه قد وصل إلى مختبر التجربة الشعرية العربية ،في المرحلة نفسها التي نشأ فيها شعر التفعيلة الحر ذو الأصل العربي ، والذي مثّل بالفعل المفهوم الحداثي في الشعر العربي. فلم يكن من المبرَر في ذلك الوقت الفصل بين المفهومين. خاصة وأن الغرب الذي استوردنا منه شعر ما بعد الحداثة ،كان ما يزال يخوض افتتاح تجربة (قصيدة النثر).

إبداع العرب في اتباع الغرب

كانت الفرنسية سوزان برنار Susan Bernard قد أصدرت الطبعة الأولى، من كتابها (قصيدة النثر من بودلير حتى الوقت الراهن) عام(1959م) في باريس كرسالة لنيل درجة الدكتوراه ، فاكتشفه أدونيس بعد شهور فقط من صدوره، وترجمه إلى العربية , وكتب على إثر ذلك مقالا بعنوان (في قصيدة النثر)، نشره في مجلة «شعر» عام(1960م). فسجّل له التاريخ أنه هو أول من أطلق على هذا النوع من الكتابة تسمية (قصيدة)، تيمناً بسوزان برنار. وقد تبنى عدد من شعراء مجلة شعر كل ما نظَّـرته سوزان برنار في كتابها، وبدؤوا بكتابة ونشر قصائد النثر، والتبشير بها، في مجلة (شعر) التي أسسها خليل حاوي (1957) لتكون منبرا للشعر الحديث ، تيمنا أيضا بمجلة شعرPoetry الأمريكية ، وكان أكثرهم حماسا أنسي الحاج وأدونيس وخليل حاوي وجبرا إبراهيم جبرا وغيرهم.ثم جاءت ترجمة الشعر الأجنبي بإشراف مجلة شعر أيضا ، لتقدم النماذج المختلفة من الشعر الحداثي ، و ما بعد الحداثي في الوقت نفسه، تحت عنوان واحد (القصيدة الجديدة) .

الحداثة المضادة والانقلاب على ما بعد الحداثة

ويبدو أن الجدل الطويل الذي ثار منذ أواخر القرن العشرين، حول (الحداثة) ، إنما كان يدور في مجمله وفي حقيقته حول مفهوم (ما بعد الحداثة )، في جانبها التفكيكي على وجه الخصوص.

وهذا ما يفسر لنا كيف يمكن لشعراء حداثيين رواد في شعر الحداثة، مثل نازك الملائكة، وبدر شاكر السياب، وأمل دنقل، ونزار قباني، ومحمود درويش، وهم يكتبون الشعر الحر (التفعيلي) الحديث، أن يصرِّحوا بمواقفهم المضادة للقصيدة الحديثة (الحداثة المضادة ).فلا بد أنهم إذن كانوا يعنون بالقصيدة الحديثة القصيدة (ما بعد الحداثية أو القصيدة التفكيكية ).

ولم يتوقف رفض القصيدة التفكيكية على الشعراء التفعيليين ، بل إن روّاد قصيدة النثر أنفسهم والذين هم أول من بشّر بها، وأول من اقترحها بديلا قويا منافسا للشعر التقليدي، هم أنفسهم قد انقلبوا عليها ووقفوا ضدها، ولكن بعد ثلاثين عاما من تبشيرهم بها .

وهذا أدونيس واضع المصطلح بالعربية يتراجع عنه ، عند تقييمه لتجربته الشخصية في كتابة قصيدة النثر، في العام 1983 مؤكدا توقفه عن هذه الكتابة التي لا يعدّها (قصائد) بقوله: ” ربما كان ذلك في أساس ما دفعني إلى أن أطوِّر نظرتي لكتابة الشعر نثرا. فقد توقفت عن هذه الكتابة باستثناء (المزامير) في (أغاني مهيارالدمشقي) حتى سنة 1965 ولا أعدها (قصائد) ، ورأيت أن علينا أن نعيد النظر في ما قلناه ومارسناه ، مما يتصل بما سميناه ” قصيدة النثر “(2)

وكان أدونيس قد شنَّ هجوما على دعاة التجديد بقوله: ” نستطيع أن نعدد مآخذ كثيرة على النتاج الشعري الجديد : إن فيه تضخما ، يرافقه ضجيج فارغ . وفيه انسحار بالطرافة لذاتها ، ويبحث عنها بمختلف الوسائل . وفيه إلى ذلك زيف كثير بأشكال مختلفة. ” وميّز أدونيس بين التجديد الحقيقي والتجديد المزيف بقوله: ” إن الكثير من هذا المزعوم تجديدا يخلو من أية طاقة خلاقة ،وتعوزه حتى معرفة أبسط أدوات الشاعر : الكلمة والإيقاع. “(2)

أما جبرا إبراهيم جبرا فقد نسف تاريخا من التجربة الشعرية، ووصف عملية التحديث الشعري بالانفلات ،حين قال : ” بعد ثلاثين سنة من بدايتنا في عملية التحديث الشعري تحقق الكثير. لكنه في تحققه انفلت. كان للشعر العربي نوع من القدسية ، الآن فقد الشعر العربي هذه القدسية. لقد حضّرنا ثلاثين سنة، حتى أصبح قول مثل هذه القصائد ممكنا، ولكن يخيّل إلي أحيانا أننا أخطأنا بذلك التحضير ، لأننا مهدنا لهذا النوع من الشعر .”(2)

لكن ما يلفت الانتباه أكثر، هو اعتراف روّاد قصيدة النثر بالجانب النفسي المضطرب والمتأزم الذي تميّز به شعراؤها .
وأنا هنا لا أتكلم عن المرض النفسي (العصاب والنرجسية )، الذي قد يرتبط بطبيعة الشاعر بوصفه فنانا. وهو ما ذهب إليه الدكتور عز الدين إسماعيل في كتابه ( التفسير النفسي للأدب)(3)
نقلا عن ترلنج Trilling الذي قال : ” أول شيء تشخَّص به حالة الفنان الصحية أنه عصابي neurotic ، وقد ذهبت محاولات التحليل النفسي المبكرة لتناول الفن، إلى أنه ما دام الفنان عصابيا فإن محتوى عمله الفني عصابي كذلك. “

لا يتكلم هذا المقال عن الطبيعة النفسية القلقة والمشتركة بين جميع الشعراء، إنما يتكلم عن الأثر المرضي الذي أضافته الثقافة التفكيكية على وجه الخصوص، إلى الطبيعة العصابية الأصلية للشعراء ما بعد الحداثيين.

يقول أنسي الحاج مبشَّراً بقصيدة النثر في مقدمة ديوانه (لن)(4) مادحاً لا هاجياً: “يجب أن أقول أيضا: إن قصيدة النثر- وهذا إيمان شخصي قد يبدو اعتباطيا- عمل شاعر (ملعون). الملعون في جسده ووجدانه، الملعون يضيق بعالم نقي. إنه لا يضطجع على أرث الماضي. إنه غازٍ. وحاجته إلى الحرية تفوق حاجة أي كان إلى الحرية. إنه يستبيح كل المحرمات ليتحرر. لكن قصيدة “النثر” التي هي نتاج ملاعين، لا تنحصر به أهميتها أنها تتسع لجميع الآخرين، بين مبارك ومعافى. الجميع يعبرون على ظهر ملعون.
نحن في زمن السرطان. هذا ما أقوله ويضحك الجميع. نحن في زمن السرطان: هنا، وفي الداخل. الفن إما يجاري أو يموت. لقد جارى والمصابون هم الذين خلقوا عالم الشعر الجديد: حين نقول رمبو نشير إلى عائلة من المرضى. (قصيدة النثر بنت هذه العائلة)…”(4) انتهى كلام ـنسي الحاج.

هذا السرطان الذي يتحدث عنه أنسي الحاج ،هو منبع الأزمات النفسية والذهنية ، التي تعمل على تدمير كل القيم المعنوية المؤدية إلى الاستقرار والتوازن النفسي عند شاعر قصيدة النثر وفقا لمنهج التفكيكية ، عن طريق التشكيك بالقيم والمبادئ المعرفية والأخلاقية ، والبحث عن أية أسباب تقود إلى رفضها، والتمرد عليها، من أجل أن تستمر أزمات الرفض و التمرد والاغتراب إلى الأبد، ما دام استمرار هذه الأزمات يعني استمرار الشاعر نفسه ، وبتوقفها يجفُّ مداده . لذلك تجد الشاعر فيهم قد تمسك بمعاناته وقلقه تمسكا يصل إلى حد الفخر والمزايدة عليهما، واستغرق فيهما استغراقا يطمح إلى زيادة الرصيد منهما، حتى انقلب الزيف في تقمص الشعور عنده إلى حقيقة ماثلة في النص النثري الذي يصرّ مؤلفه على تسميته (شعرا).

تهيئة النص التفكيكي

إن الشاعر الذي يعدُّ نصه للقراءة التفكيكية عند كتابته ،واقع لا محالة تحت تأثير الترويج لـ (موضة ) المنهج النقدي السائد، في مرحلة ما بعد الحداثة. وقد ترك هذا التأثير خلخلة عميقة في بنية النص المكتوب، على صعيد الشكل والمضمون معا، بوصفه شعرا منثورا. فالشاعر عندما يعي على سبيل المثال، أن نصَّه سيكون مفتوحا للتأويل المتعدد أو اللانهائي في النقد التفكيكي، فإنه سيحاول ولا ريب أن يكتبه على هذا الأساس، بالأسلوب الذي يصلح لتوفير الغموض في البنية الفنية المفككة للنص، ويصلح لتوفير التشويش المعنوي ولعكس التشظي العاطفي، عند الشاعر الملعون والمتمسك بلعنته. كل ذلك يأتي كمحاولة منه (من الشاعر) لإثبات جدارته، إثباتا يفرضه توقعه أنه مُتَّهم بالعجز عن كتابة الشعر العمودي أو شعر التفعيلة .
كما أن تأثر الشاعر نفسه بقراءته لنصوص المتأثرين بتلك الموجة (الموضة الأدبية )، يدفعه لدخول مضمار التنافس الغريزي المشروع على استقطاب الجمهور.

لقد تجاوز شعراء النثر كل الشروط الفنية لقصيدة النثر ، والتي نقلها أنسي الحاج عن توصيات سوزان برنار وهي (التوهج والمجانية والتكثيف) . ولذلك سمّى أمل دنقل قصيدة النثر بالقصيدة “المتجاوزة “(5) واصفا شعراءها بـأنهم (أصحاب التطلعات المريضة) . وقد علل كتابتهم لهذه القصيدة بهذه الطريقة ،بـ(فقدان الثقة) الذي يعانون منه حيال تغيير الواقع المتردي بقوله :
” ولأن فقدان الثقة عند الشاعر في تغيير هذا الواقع قد أدى به إلى أنواع من استجلاب وسائل فنية في ظل حضارة مختلفة ومحاولة فرضها على المجتمع الثقافي العربي، ومن هنا تحول الشعر الحديث إلى شعر مثقفين ، في حين أن وظيفته الأساسية هي ارتباطه بالناس ، وتجاوبهم بالتالي معه…الشعر لا يلقن أسراره العميقة ولا يضع ناره المقدسة إلا في النفوس الواجدة وفي القلوب البريئة من التطلعات المريضة )(5)
ولا بد أن أمل دنقل الذي كان يكتب الشعر التفعيلي، لم يكن يعني بعبارة الشعر الحديث سوى الشعر التفكيكي (ما بعد الحداثي).

خطورة الفلسفة التفكيكية

لم تظهر الدراسات النقدية التفكيكية العربية إلا متأخرة، وبعد مرور أكثر من ربع قرن على تأسيس مجلة شعر . كما ذكرت الباحثة وردة مداح التي أرّخت لظهور أول دراسة نقدية تفكيكية عربية في العام (1985)، ممثلة بتجربة الناقد السعودي عبد الله الغذامي في كتابه “الخطيئة والتكفير” قراءة نقدية لنموذج إنساني معاصر” من البنيوية إلى التشريحية.
ولكن عبد الله الغذامي نفسه لم يقدم مفهوم التفكيكية في كتابه ، إلا بعد أن حوّر المصطلح، ليجرده من بعده الفلسفي ويقصره على بعده الإجرائي أو التطبيقي، عندما استخدم لفظة (التشريحية ) بدلا من التفكيكية، في ترجمته للفظة التفكيكية (déconstruction).
يقول عبد الله الغذامي :” إستقر رأيي أخيرا على كلمة (التشريحية أو تشريح النص) ؛ والمقصود بهذا الإتجاه هو تفكيك النص من أجل إعادة بنائه، وهذه وسيلة تفتح المجال للإبداع القرائي كي يتفاعل مع النص(6)
.
لكن لفظة التشريحية تكاد تخفي الفلسفة النظرية التقويضية الخطيرة، التي يقوم عليها المنهج التفكيكي في النقد، والتي تبناها الشعر العربي ما بعد الحداثي، دون الشعر الحداثي .

ومن أهم الأسس التي تقوم عليها التفكيكية :الاختلاف، وعدمية التمركز، وتقويض الميتافيزيقيا.(7)

1- الاختلاف
يعتقد دريدا مؤسس منهج التفكيكية ، بأنه من غير الممكن أن يتوصل الناص إلى كتابة نص يجسد المعاني بموضوعية حقيقية. وأن النص أيا كان جنسه الأدبي، يحفل بما لم يرغب الناص بقوله. ذلك لأن اللغة المكتوبة تعجز دائما عن تجسيد المعنى الحقيقي، لأن اللغة كلها استعارية مجازية. وهناك فرق بين الكلام الملفوظ مباشرة بصوت قائله، والذي يسميه دريدا بـ(الحضور) ، والكلام المكتوب كتابة، والذي يسميه (الغياب). فالكلام المكتوب يستمر في توليد المعاني حتى بعد موت كاتبه . ودريدا بهذا الاعتقاد، ينقض ما يفترضه رائد اللسانيات دي سوسير ،في قوله بوجود اتحاد بين الكلمة أو (الدال ) ومعناها أو (المدلول) أو المعنى، سواء أكانت الكلمة منطوقة أو مكتوبة. ومادامت اللغة عاجزة عن تجسيد المعنى الحقيقي في النص، فإن دريدا يقول بوجود احتمالات غير متناهية لتأويل معاني النص ، ولا يستطيع أي من هذه التأويلات اللامتناهية الادعاء بأنه قد ألمّ بحقيقة المعنى، لكن علينا أن نقبل بكل التأويلات التي ستختلف مع اختلاف القارئ. .

2- عدم التمركز
المنهج التفكيكي يساوي بين كل التأويلات من حيث احتمال الصواب . وبالتالي فإنه يدمر حقيقة المعنى في النص تدميرا كليا . وبسبب مبدأ القبول بالتأويلات اللامتناهية جميعا على السواء، دون تفاضل، فلن تبقى ثمة مرجعية في القرار النقدي . ولن يكون ثمة ترجيح يفضي إلى اختيار أحد التأويلات، لنصرته وتعزيزه دون سواه، باعتباره مركزا للحقيقة. وهكذا فلن يكون ثمة فرصة لحقيقة ما في أن تتمركز وحدها وتصبح مرجعا . ولا يؤدي هذا في الفلسفة التفكيكية، إلا إلى غياب وتهميش كل الحقائق.ما يعني أيضا غياب اليقين إلى الأبد، ولن يسود في استقبال لغة الخطاب إلا الشك والتشكيك.

3- تدمير عِلَّة الموجودات (الميتافيزيقيا)
دريدا ينتقد المنطق ويرفض اعتماده طريقة للاستدلال على وجود الحقيقة . لأنه- كما ذكرنا آنفا – لا يثق بقدرة اللغة على استحضار المعنى في النص ، ولو حضر المعنى في النص، لأصبحت بنية النص مغلقة عليه، وملمة به، وهذا عين ما يؤخذ به في المنهج البنيوي . لكن دريدا الثائر على المنهج البنيوي، يرفض انغلاق النص، و يرفض الاعتراف بجدوى تمركز العقل ،ومعاييره في الاستدلال المنطقي البنيوي، للوصول إلى حقيقة واحدة للمعنى في النص.
وتشترط منهجية التفكيك تحييد شخصية الناص عن نصه عند نقد النص ، لأنها تعتبر أن الناص نفسه لا يدرك العناصر اللاشعورية، التي تتسرب إلى النص في غفلة عن وعيه، والتي تصبح موضوعا جوهريا في القراءة التفكيكية، يفضي إلى اكتشاف التناقضات الداخلية في معاني النص، والتي تقوّض هذه المعاني، قبل أن تعيد استخدامها لبناء النص مرة أخرى على أنقاضها، وتترك للقارئ قراءتها وتأويلها حسب ما تبدو له. وليس من صلاحيات الناص الميت أن يرد، أو يصحح للقارئ تأويله الذاتي للنص. ومن هنا فإن دريدا يصف المعنى بالاستفاضة، ويحيله إلى القارئ فقط ،ويحكم عليه بالقلق واللااستقرار، ويتركه في حالة من الإرجاء، يستحيل معها القبض عليه.

الأزمات النفسية:

أولا : (التشظي والالتئام ) والضياع والحزن

يقول الناقد عالي سرحان القرشي في كتابه (أسئلة القصيدة الجديدة)(8):
“إن (التشظي والالتئام) ظاهرة تنتظم قصيدة النثر، خصوصا القصيدة التي تتكون عبر الإبداع الذاتي وتنصهر فيها الرؤية المتفردة . وقد صبغ ذلك التشكيل الشعري والبناء الكتابي للنص. فأصبحت تتجاوز الانبعاث من النص إلى أن تكون المشكل له ، فتظهر في شكل الكتابة وفي تكوين الصورة . وفي حركة اللغة إذ أن الشاعر في اللحظة التي يعاقر فيها الكتابة هو يعاني حالة التشظي والخروج من قلق ما يجول في خاطره ويبحث عن الالتئام في تشكيل ما يتمكن من تشكيله مما انصدع به في حالة التوتر، وحالة الخروج عن الصمت السابقة للكتابة”.(8)

ويرى أن الشعر السعودي الحديث يتميز بوجود تناوب في التشكيل بين الذات الشاعرة التي تنشئ النص، والتي تتشكل أيضا داخل النص . فهي الباعثة والمبعوثة فيه. ويشرح ذلك بمعنى أن النص هو النسيج الذي تنغرس فيه الذات ويشكل هيئة تحركها. فالنص مشحون بالذاتية ،كما أن الذات في تشظيها ومحاولة التئامها هي موضوعه الرئيسي . (8)

ولكننا نستطيع تعميم هذا الكلام، لإطلاقه على النص ما بعد الحداثي، في (قصيدة) النثر العربية عموما، وليس فقط على النص السعودي . فسمة الذاتية وتسخير مساحة النص أساسا لانبثاق الذات الشاعرة ظاهرة عامة، رافقت نص (قصيدة ) النثر منذ بداية ظهورها عام 1954 وحتى الآن.

إن عواطف النص التفكيكي بالمطلق سلبية مثبطة : فالتشظي هو الحيرة والتردد والضياع والحزن والتشاؤم . والالتئام ليس مؤكد التحقق ،إلا بقدر ما توفره العملية المجردة للتعبير، من فرصة للتوازن النفسي عبر تخفيف ضغط الاحتقان النفسي، الناجم عن عدم الالتئام مع الواقع. وما هذا التشظي والتشتت والضياع إلا نتائح مباشرة وواضحة لفقدان الثقة بالثوابت القيمية . فالتشكك والتشكيك منطلقان وآليتان تتبعهما التفكيكية في تأويل حقيقة المعنى في النص التفكيكي المكتوب. عبر سعيها لاستحضار المعنى الغائب في النص(فيزيقيا استحضار الغياب) والذي لن تسلَّم له بالحضور، حتى لو حضر فعلا . ولأن الناص يدرك شرط انفتاح النص على التأويلات اللامتناهية عند قراءته، فإنه لا يحاول الاقتراب الشديد من المعاني إلى درجة تجسيدها وبلورتها، خشية القبض عليها قبضا تتعذر معه فرصة انفتاح النص على التأويلات اللامتناهية للمعنى. ولذلك فإن الناص مجبر على الدوران حول المعاني دورانا لا يكشفها، ولا يعلنها، فلا يتبقى له من خيار آخر غير اتباع أسلوب التلميح والإيماء والإغماض والتشويش. وهو ما يوقعه في أزمة قلق لا استقرار بعده .

ثانيا: التشتت فنيا ومعنويا

قوة إرادة الناص في النص البنيوي هي التي تنتج (التمركز) فيه ، ووضوح غاية الناص في نصه هو الذي يسمح بمركزة المعاني وتحديدها وإجلائها للقارئ. ولأن تحديد الهدف مسبقا غير ممكن أو غير قابل للتصديق في النص التفكيكي عند إنشاء النص، فإن ذلك يستدعي بعثرة الكلام وتوجيهه في سياقات متعددة ومتقاطعة (متناقضة) ، كي يتاح كشف التضاد والتناقض فيها عند تفكيكها ،مما يسهِّل تقويض المعاني فيها . ولا شك أن تقويض المعاني، وإثبات تناقض الناص مع نفسه في نصه، هو الهدف الأساسي المقرر مسبقا، في قراءة النص قراءة تفكيكية.

وبديل التمركز أو الثبات المعنوي هو (التشتت) الذي يحوِّل النص كله عند إنشائه إلى تشكيلة ذاتية من الأفكار الجانبية الهامشية المتناقضة والمتعارضة، والتي يريد لها الناص أولا وأخيرا، أن تعبر عن عدم تماسك شخصيته في نصه . فالناص ملتزم بالتشتت، لكونه أهم ضرورة فنية في النص التفكيكي. والتشتت يقتضي تعدد السياقات في النص . ويقتضي كذلك الانبثاق المفاجئ للصورة الفنية الجزئية ذات المعنى التلميحي المبتور، الذي يناسبها أن توصف بـ(القصاصة الفنية ) أكثر من توصيفها بالصورة الفنية. هذه القصاصة الفنية على الرغم من عدم انسجامها وعدم التئامها مع السياق ،تبدو طازجة نضرة مغرية شهية ،إذا وجدت ، وكأنها شرارة الإبداع اللامعة التي تومض فجأة من اللاشعور ودون سابق إنذار أو تمهيد، غير أنها تبدو لذلك مفروضة على النص فرضا، وملصوقة به لصقا ، فيضطر القارئ المندهش بها لفصلها عن النص ، ليحتفظ بها جانبا، فيصبح غير قادر على إلقائها وإهمالها لما فيها من الطرافة، وغير قادر على استساغة النص دونها لكونها هي وحدها الجزء الذي يستحق القراءة من النص كله.وهي التي تبعث الدافع عند القارئ لإكمال قراءة النص ، ويصبح غير قادر على تقبل حضورها المفاجئ ،على الرغم من اندفاعه للبحث عنها في النص . فهي الأجمل في النص وهي الأشد إثارة وإرباكا بحضورها الفوضوي الذي يحيل النص إلى شرارات من المعاني المربكة وقصاصات من الصور الهائمة. ، فيخفت التوهج المرجو لأنه يفتقد إلى تركيز اللمعان وتكثيفه في بؤرة واضحة، بسبب التشويش المعنوي، وغموض العلاقات بين عناصر المعنى وأجزائه في اللغة المجازية التي تتشكل منها تلك القصاصات القلقة ،والتي تثير قلق القارئ لعدم ارتكازها على وجه شبه يربط بين عناصر لغتها المجازية الناقصة.

المشكلة أن شعراء قصيدة النثر لم يلجؤوا لكتابتها إلا لاستسهالهم لها . ولأنهم ظنوا أن التخلص من قيود القافية والوزن والترابط المعنوي، سيكشف عن إبداع اللاشعور التلقائي، الذي سيظهر وحده على الورق وبدون أي جهد واعٍ . لقد أصيب هؤلاء الشعراء جميعا بعدوى كتابة (الشعر المنثور)منذ انبهارهم بكتابات أدونيس وأنسي الحاج وخليل حاوي الأولى. ولكن حتى أنسي الحاج وخليل حاوي لم يحافظا على المستوى نفسه من التألق الإبداعي في نصوصهم النثرية. أما أدونيس فقد كان وقتَها حالة خاصة . إن قوة الصور الفنية العفوية ذات المعنى الأصيل كانت تمثل جوهر الإبداع المميز في النصين التفعيلي والنثري عند أدونيس في تلك البدايات .كانت تمثل بقعة التوهج ومركز التكثيف لأنها متقنة متبلورة قياسا لما كان يُكتَب .ولكن نص أدونيس لم يكن نصا تفكيكيا ، بل كان نصا بنيويا سرياليا ورمزيا .

ثالثا : الاغتراب والتعالي والإحباط والتناقض

لم يكن الاغتراب سمة نفسية ذاتية واضحة عند روّاد شعر الحداثة , فلا أحد يستطيع القول : إن نازك الملائكة وأمل دنقل ومحمود درويش ونزار قباني ومظفر النواب وغيرهم، كانوا يفتقرون إلى الشعور بالانتماء العميق إلى أمتهم وقضاياها, أو أنهم كانوا يعانون نفسيا من أزمة الاغتراب الذاتي التي تمنعهم من التواصل مع الجماهير والتفاعل معها . فإذا كنا نستطيع رصد أزمة اغتراب عندهم فهو اغتراب عن السلطة لا عن الأمة أو الشعب , حتى أولئك الشعراء الذين بشّروا بقصيدة النثر, والذين امتلأت نصوصهم بالتمرد والرفض ، فإنهم كانوا شديدي الانتماء يتسابقون على الاقتراب من الجماهير والتفاعل مع قضاياها ، ويحملون على عواتقهم واجب تحفيزها والنهوض بها، وهو ما أفضي إلى نشوء أدب الالتزام (السياسي), و حتى الأدباء والشعراء الذين لم يسخِّروا أنفسهم لأدب الالتزام كانوا في الواقع يمارسونه , يقول أدونيس – وما هو بالشاعر الملتزم – للتعبير عن انتمائه في قصيدته (قالت الأرض) (9)
أنا فيها الفلاح أزرع قمحا
ورودا وأقلع الأشواكا
سكتي تنطح الصخور وتمشي
في الأحافير نشوة وعراكا
وحقولي سنابل تفرع النجم
كأني زرعت فيها السماكا
قيّم باسم أمتي …لست مقطوعا
ولا غاصبا ولا ملّاكا
أنا للشعب ..أيها الشعب مجدت
فإني في كل شيء أراكا
أما أمل دنقل فيهدي للشهيد مجدي أبو غزالة قصيدته (بكائية ليلية )(10) ويعبر فيها عن القضية المشتركة بينه وبين الشهيد وهي البكاء على الوطن لشدة التفاعل معه :
للمرة الأولى
قرأت في عينيه يومه الذي يموت فيه
رأيته في صحراء النقب مقتولا
منكفئا يغرز في شفتيه
وهي لا ترد قبلة لفيه
نتوه في القاهرة العجوز ننسى الزمىا
نفلت من ضجيج سياراتها ، وأغنيات المتسولين
تظلنا محطة المترو مع المساء.. متعبين .
وكان يبكي وطنا …وكنت أبكي وطنا
نبكي إلى أن تنضب الأشعار
نسألها أين خطوط النار؟
وهل ترى الرصاصة الأولى هناك.. أم هنا ؟
ويمكننا أن نقرأ هذا الانتماء لهموم الشعب، إلى درجة الدفاع عنه، وفدائه، مع التمرد على السلطة والنقمة عليها ، والتقرب من الشعب والتواضع له بذكر (شيوخ البدو ) في نص( الوشم) لمحمد الماغوط (11)، مثلا ، كما في أمثلة لا متناهية من نصوص (الشعر ) ما بعد الحداثي

الآن في الساعة الثالثة من القرن العشرين
حيث لا شيء
يفصل جثثَ الموتى عن أحذيةِ الماره
سوى الاسفلت
سأتكئ في عرضِ الشارع كشيوخ البدو
ولن أنهض
حتى تجمع كل قضبان السجون وإضبارات المشبوهين
في العالم
وتوضع أمامي
لألوكها كالجمل على قارعة الطريق..
حتى تفرَّ كلُّ هراواتِ الشرطة والمتظاهرين
من قبضات أصحابها
وتعود أغصاناً مزهرة (مرةً أخرى)
في غاباتها

ربما كان أحد أسباب الانتماء عند شعراء الحداثة هومعاصرتهم لمرحلة تاريخية حافلة بالتحديات والانقلابات السياسية، سيطرت فيها تيارات أيديولوجية سياسية تعتمد في فلسفتها على الجماهير ، كالاشتراكية والماركسية ، ولا يخفى تأثير الماركسية مثلا في شعر أدونيس وشعراء المقاومة . لكن أحدا لا يستطيع أن ينكر أن هؤلاء الشعراء قاموا بدورهم (وخاصة شعراء المقاومة الفلسطينية) في التعبئة النفسية للأجيال التي تغذت من مداد شعرهم، على اختلاف مدارسهم الإبداعية.

أما شعراء ما بعد الحداثة فهم خلاف ذلك قد سقطوا في أزمة لا انفراج لها من الاغتراب عن الجماهير ، وأحد أسباب هذه الأزمة ولا شك، هو المنهج التفكيكي الذي أغرق الشعراء في ذواتهم، بعد أن منعهم من التركيز على حقائق وجودهم، ومصيرهم، والتفاعل مع الأهداف الواضحة للأمة , وحرمهم من أن يقوموا بدور تعبئة أنفسهم قبل أن يُطالبوا بتعبئة الجماهير. وكيف يتأتى لهم قيادة الجماهير إلى أهداف واضحة وهم يمارسون ضياعهم وتمزقهم وتشظيهم النفسي ؟؟ هذا إن لم نتحدث عن تأثيرهم السلبي المحبط والمثبط للأجيال اللاحقة التي بدأت تفقد بوصلة الانتماء وتنسلخ مثلهم عن الواقع بتأثير عدوى الاغتراب التي تتسرب من نصوصهم .
ولا يمكن للقارئ أن يخطئ في قراءة اللاانتماء وهو يقرأ مثلا ، نص قصيدة (منذ ستة وعشرين عاما) للشاعر سيف الرحبي (12)
فعندما يسأل الشاعر نفسه مستنكرا : ماذا تفعل في هذه البلاد؟ يكون قد رحل عنها قبل أن يغادرها فعليا . فهذه هي مرحلة الانسلاخ التي تنذر بمرحلة الاغتراب .المهمُ أننا موجودون على هذه الأرض.
هكذا من غير أحلام ولا معجزات
موجودون في أرض الله والبشر
ولا يعترف الشاعر بالاغتراب إلا بعد أن يترك كل شيء وراءه ويمضي في رحلته التي يكتفي فيها بأن يكون موجودا ، لينضم في النهاية إلى الذين لا يحتاجون لا إلى قافلة ولا إلى دليل، لأنهم مجرد عمال وكهنة غرقى .
كلّ صباح
حين تستيقظُ من نومك المليء بالمذابح والأحلام
تسألُ نفسك
عاما بعد عام
أمام أرضٍ صمّاء وأرخبيل مغلق،
منذ ستة وعشرين عاماً
ماذا تفعلُ في هذه البلاد؟
ستةُ وعشرون مرّت
وأنت تذرعُ الأفق بقدمٍ مكسورةٍ
ورأس غارق في الجحيم.
بداية الرحلة
ستحلمُ أن هناك مستقراً وكتباً
وربما ثوراتٍ تقلبُ وجه العالم.
فمضيت، تاركاً كل شيء وراءك
عويل أمك على سلم البئر،
الذي ظلّ يلاحقُك في المدن والقارّات،
نظرات أبيك الغاضبة.
مرابع طفولتك بين الجبال والشُهُب.
ميلاد النفط بين عظام الأجداد.
ماضياً وراء ندائك، في ليلةٍ
كانت فيها الرياحُ ثكلى،
فجرَ ليلةٍ مُبهماً.
سيكونُ هناك مستقرٌ
ونساءٌ وثوراتٌ
وفي طريقك عبر الصحراء
رأيت بدواُ أوقدوا نيراناً وكلاباً
دافنين أمتعتهم في الرمل
رأيت المستكشفين يعلّقون خرائط الجزيرة
على رؤوس الأشجار
وآلاتٍ عملاقة، يحسبُها السكاّن
نذيراً بالقيامة.
رأيت الأرض تهتزُ،
كما لو أنها على كفّ عفريت
وجملاً يبتلعُ صاحبه
كما تبتلعُ الصحراءُ العواصف.
بعد قليلٍ ستجتازُ البوادي نحو الأحلام
ستجتازُ حاجز السحرة
ورافعات الحبال الأسطورية.
لكنّ الحافة لا تنتهي
إلا إلى أعماق الهاوية
والصحراء تمتدُ والغبار يعمي الدليل
والقافلة تتلاشى
خريفٌ يمرُ ومدنٌ تتشظّى
كنيرانٍ أخمدتها شهب بين المجرات
وبحارٌ تموتُ بالسكتة.
وأنت تعدُ الأعوام
حالماً باجتياز المضيق
شعرُك يغزوه الشيبُ
وجسدُك يتلوّى من ألم غامض
كأنما رياحٌ هوجٌ قذفت أحشاءها
في أعماقك
ترنو إلى نجمٍ شاحب وسط سماء قفرٍ
تتقاطرُ في مراياها
النساءُ والوجوهُ والأصدقاء.
أيُ الأماكن كان مستقراً
أي طفولةٍ كانت لك؟
وبأيّ زمن رميت سهامك
في عيون الفجر.
فسقطت عصافيرُ الأبديّة.
لا تتذكرُ شيئاً
لا تنسى شيئاً
مشدوداً إلى وتد الجبال
تمشي مغمض العينين
في طرقاتٍ مليئةٍ بالذئاب.
كم مرةً نمت في محطّات القطارات
كم مرّةً تقاذفتك أيدي البوليس العنصريّ.
في غرف باردة،
مع غرباء مثلك؟
ربما حصل ذلك في زحمة الكواكب
حيثُ الأفعى أفاقت بعد نومٍ طويل
لتلتهم الجَنّة
وتلتهم احتمالات العودة.
قلت لا بأس
المهمُ أننا موجودون على هذه الأرض.
هكذا من غير أحلام ولا معجزات
موجودون في أرض الله والبشر
الأرض.. يكفي أنها تتسعُ لسريرٍ وقبرٍ،
وبينهما ضحكةٌ سوداء.
ولكن قبل ذلك
هناك طرقُ طويلةٌ تفضي إلى ظلمةٍ
تنفجرُ منها مياهٌ وبساتين
في قلب كلّ بستانٍ امرأةُ تعوي من الشبق
وأصدقاء لا تنقصُهم الخيانةُ
والبولُ على الجثث.
يمكنك أن تستريح من عناء الرحلة
وتقطن فندقاً في مركز المدينة
حيثُ في كلَ صباحٍ تجلسُ على الشرفة
تشربُ القهوة والنبيذ
وترقبُ الأحياء والأموات
حشوداً تسحبُ أمعاءها في الأزقّة
وحروباً يستعرُ لظاها في المخيّلة.
أو ربما لا تفكرُ في شيء
عدا فنجان القهوة المزدحم سطحُه بالكواكب
فهناك دائماً في المدينة أو القرية
أو الثكنة
من يقومُ كلّ صباحٍ
ماضياً في طريقه إلى الهدف،
الخمّاراتُ تفتحُ أبوابها
(ترمقُ النادل ينظفُ الطاولات
في الضوء الخافت للعاهرات)
والموظّفون يحتشدون في الساحات والمكاتب،
وكذلك العمّال
والكهنةُ والغرقى
لا يحتاجون إلى قافلةٍ
أو دليل

أما التعالي فهو محصلة ونتيجة طبيعية لحالة الاغتراب والانفصال عن الواقع عند شعراء ما بعد الحداثة ؛ وذلك لأنهم مضطرون لتبرير اغترابهم تبريراً لا يعود بالتهمة عليهم ، لذا فلا بد لا هم من تبرئة أنفسهم أمام المتلقي بإظهار أنفسهم ضحايا للواقع الذي لا يستطيعون التأثير فيه أو تغييره ، ليس لأنهم هم العاجزون أو المتقاعسون أو الراغبون بعزل أنفسهم عن مجريات الأحداث في الواقع السياسي والاجتماعي، بل لأنهم هم السابقون عصرَهم بوعي قضايا الحريَّات، التي لا يعترف بها الواقع ولا يوفرها لهم للتعبير عن حضورهم المتميز والمتفوق . فهم يمثلون حالات نبوغ إبداعية نادرة الوجود من حيث تجاوزهم كل ما هو نمطي وتقليدي في ارتياد الصورة الشعرية وابتكار ما هو غير معتاد في التعبير والتخييل، وهو ما تقصِّر مجتمعاتهم ومؤسساتها الأدبية في استيعابه وتقديره والاعتراف به ، وبهذا التصور النفسي الذي يتقمصونه ويتمثلونه عن أنفسهم يصبحون عرضة لمشاعر الإحباط الذي يشعرهم في النهاية أنهم موجودون في الزمان الخاطئ وفي المكان الخاطئ . بينما هم في حقيقة الأمر يكونون قد أوصلوا أنفسهم إلى نطقة الانقطاع عن التواصل مع أصولهم ومحيطهم وبيئاتهم بسبب استغراقهم في مجاهل عوالمهم الذاتية واقتناعهم الكامل بحقهم في ممارسة هذا الاستغراق ، لأنه ببساطة هو طريقهم الحتمي والوحيد للانبعاث في النص التفكيكي الذي يعيدون انبعاثهم عبر كتابته .

وتتضح لنا ضرورة الربط بين المقدمات والنتائج عندما نعيد قراءة ما قاله الناقد عالي سرحان القرشي عن التشظي والالتئام من منظور منطقي يبرر التشظي والالتئام وفقاً لقانون السبب والنتيجة ؛ فلولا أن التشظي يسبق الالتئام لما حدث الالتئام عبر الكتابة . والالتئام هو غاية الكتابة الإبداعية.

وهذا يعني أن الشاعر ما بعد الحداثي ووفقاً لمتطلبات الفلسفة التفكيكية مضطر ومجبر ومرغم على ممارسة التشظي، فهو يختار تحطيم روابطه النفسية التي تربطه مع القيم اختياراً حتمياُ كي يتاح له ممارسة الالتئام عبر فعل الكتابة . وهو مضطر لتدمير نفسه وتغريبها عن واقعه كي يتاح له بعث هذه النفس وتشكيلها من جديد في نصه عبر فعل الكتابة الإبداعية .وهو ما يبرر حقا تمسك هؤلاء المبدعين بمعاناتهم ومزايدتهم عليها ولا أرى في هذا إلا غاية التناقض والاهتزاز في الحالة النفسية التي تسود في شعر ما بعد الحداثة . تأثير نفسي إيجابي للتفكيكية

إن الأثر الإيجابي الذي لا ينبغي إهماله للمنهج التفكيكي هو الذي انعكس على الأدب النسائي خاصة، لأنه سهّل للمرأة العربية التعبير عن نفسها وعن أزماتها النفسية في ظل الكبت والقمع الاجتماعي السائد في بعضالبيئات الاجتماعية، بأسلوب يحميه الغموض وتحرسه الرموز.

يتحدث القرشي في كتابه (أسئلة القصيدة الجديدة ) (8) عن تجربة المرأة المميزة في النص الشعري السعودي الحداثي ليؤكد أن المرأة السعودية قد خرجت عن الشكل الشعري التقليدي لتجرب فيه أدواتها وطاقاتها التعبيرية من جهة ولقناعتها بضرورة التجديد من جهة أخرى.

وعلى الرغم من أننا نقرأ في نص لفوزية أبو خالد رائدة(13) قصيدة النثر السعودية إشارات تدل على اهتداء النساء بإرث شهرزاد وزرقاء اليمامة ، إلا أن هذا الاهتداء لم يأت إلا في الحلم الذي تحلم المليحة بالابتداء به . وبما أنه مجرد حلم، فإن الكلام يبقى كلاما، وستنقض النساء في الصباح غزل المساء .

أيُّ فردوسٍ انسَلَّ منه النساء
وسكبنَ السَّرابَ
على….
سُبات السابلة؟
نُهرِّب ماءَ السماء في سواد المساء
نُقطِّر شمساً نحاسيّةً على شحوبِ الصحراء
نشكّ الأصابعَ بماسِ العسيب
أيّ نعاسٍ يغالب صحوَ الصبايا؟
نستمطر القلبَ أشواقاً حييّةً ورحيقاً يفور
نستمطر الوقتَ عمراً وصبراً جميلْ
نستمطر الطرقاتِ..
وطناً
يبدّد الوحشةَ المشتركَة
أيُّ رياح تُخاطف الأشرعة؟
نُمازج الطوفانَ بأطياف تطير
ونُؤلِّف من كل زوجين اثنين
مَهْراً للمُهرة الهاربة
أيُّ قمر علَّقتْه شهرزادُ على ليل اللقاء؟
قلنا اقتربْ
قلنا عصافيرُ تحترق
قامةٌ تُورق
قلنا زرقاءُ تقرأ إشارات المَحاق
غابةُ سِدْر تُشْجِر مُكعَّبات الفراغ
قلنا..
هيّأنا الأَهلَّة للعيدِ
الأكفَّ للحنّاء هيّأْنا
هيّأْنا
عرساً لبلاد
آخيْنا بين القمح والمستحيل
الجرحَ بالملح وَضّأْنا
وهبنا خميرةَ الروح لأجنّة المطلَق
ونقضْنا في الصباح غَزْلَ المساء

الخلاصة

لقد تحكمت فلسفة المنهج التفكيكي في النقد ليس فقط في عملية التلقي والقراءة النقدية عند القارئ والناقد ، وإنما في أساليب إنشاء النصوص الإبداعية نفسها عند المبدعين ، وهو ما تطلب ضريبة ضخمة من المجهود النفسي التابع لاعتناق الفلسفة التفكيكية ، تمثَّل تأثيرها الخطير في شعر ما بعد الحداثة في انتهاج التحلل النفسي الذاتي عند الشعراء وممارسة التشكيك والاغتراب كطرائق حتمية وضرورية للإبداع .


المراجع
1-الغامدي ،د. سعيد بن ناصر (الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها) دراسة نقدية شرعية ط1 ،2003،دار الأندلس الخضراء جدة .
2- ندوة مجلة فصول عن قضايا الشعر المعاصر ، المجلد الأول ، العدد الرابع، يوليو 1981
3 – إسماعيل ، عز الدين : التفسير النفسي للأدب – مكتبة غريب. الطبعة 4، صفحة 22.
4- الحاج ، أنسي عن مقدمة ديوان (لن) ، ط2، المؤسسة الجامعية – بيروت 1982. صدرت الطبعة الأولى للديوان عام 1960.
5 – دنقل، أمل : الأعمال الشعرية الكاملة ، مكتبة مدبولي ، القاهرة
6- التيارات النقدية الجديدة ، وردة مداح ، (2010-2011) التيارات النقدية الجديدة عند عبد الله الغذامي ، رسالة ماجستير ،جامعة العقيد الحاج لخضر / الجزائر.
7- عطية، د.أحمد عبد الحليم :جاك دريدا والتفكيك، دار الفارابي ، بيروت ، لبنان،ط1 2010
8- القرشي ،عالي سرحان : أسئلة القصيدة الجديدة. صفحة 159 ، الطبعة الأولى 2013بيروت لبنان
9- أدونيس ، الأعمال الشعرية الكاملة
10 – (نظرية الشعر/ مرحلة مجلة شعر – القسم الثاني: مقالات/شهادات/ مقدمات – تحرير وتقديم : محمد كامل الخطيب. منشورات وزارة الثقافة – دمشق،1996
11-الماغوط، محمد (الأعمال الشعرية الكاملة
12- الرحبي ، سيف : الموسوعة العالمية للشعر العربي
13- أبو خالد فوزية ، الموسوعة العالمية للشعر العربي

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى