أدبقصة

الأمل

تُقْبِلُ الدُّنيا عَلى بَعْضِ أَهْلِها بِفَرَحِها؛ مُتْرِعَةً إِيّاهُم كُؤوسًا دِهاقًا، وَتُدْبِرُ عَن الآخَرين؛ مُجَرِّعَةً إيّاهُم الحَنْظَلَ دَفّاقًا فَيَبْقى الذي حَظِيَ بِفَرَحِها آمِلًا أَنْ تَظَلَّ ناشِرَةً جَناحَ السُّرورِ فَوْقَ رَأْسِهِ، وَمُظَلِّلَةً إيّاهُ بِغَدَقِ النَّعيمِ؛ كَي يَحْظى بِأَطايِب العَيشِ؛ وَيُشْبِعَ رَغَباتِ الطَّيْشِ؛ وَيَرْفُلَ بِنَعيمِها حَتّى يُحْمَلَ في النَّعْشِ، وَإلّا فَإنَّهُ سَيَشْقى، وَتَبْدَأُ أَفكارُهُ بِالنَّبْشِ، وَيَسوحُ في أرْجاءِ المَعْمورَةِ باحِثًا عَن هَناءَتِهِ وَسَعادَتِهِ بِالمِعْوَلِ وَالرَّفْشِ وَيَبْقى قابِضًا عَلى أَمَلِهِ بِيَدٍ، وَعَلى سَعادَتِهِ بِالأُخرى وَيَحْيا حَياتَيْنِ، تَتَّشِحُ إِحْداهُما بِوِشاحِ جَمالِ الثّانِيَةِ؛ في حين يُقوّي أمَلُهُ مِن إشْعاعِ مَصابيح النّورِ التي تَشِعُّ، وَتُضيءُ له حَياتَهُ.

أَمّا مَن جَرَّعَتْهُ مِن كُؤوسِ مُرِّها، فَيَأْمَلُ أَنْ يَرْتَشِفَ لاحِقًا مِن حُلوِ شَهْدِها، وَيَبْقى مُحَوِّمًا حَوْلَ نَحْلِ أَمَلِهِ؛ كَي يَحْظى بِعَسَلِهِ يَوْمًا ما. وَلا يُمْكِنُهُ العَيْشَ مُتَحَمِّلًا لَسَعاتِ دَبابير الدَّهْرِ، وَلا لَظى مَشاعِر القَهْرِ، لَو لَم يَطْمَعْ بِحَلاوَةِ الشَّهْدِ وَيَكونُ أَمَلُهُ العِطْرَ الذي يَسْتَنْشِقُهُ، وَيُنْعِشُهُ كُلَّما هَبَّتْ رائِحَةُ هُمومِهِ بِزَخَمِها المُكَدِّرِ صَفْوَ أَجْواء حَياتِهِ؛ مُنْتَظِرًا مَوْعِدَ ما سَيَعْتَصِرُ مِن الخَلايا لِيَتَذَوَّقَهُ.

الأَمَلُ حَياةٌ غَيْرُ الحَياةِ، حَياةٌ مِن نَسْجِ الخَيالِ نَنْسِجُها وَنَتَدَفَّأُ بِصوفِها هَرَبًا مِن صَقيعِ حَياتِنا الواقِعِيَّةِ، أَو حِفاظًا عِلى حَرارَةِ دِفْئِها لِلذينَ أَنْعَمَتْ عَلَيْهِم بِالدِّفْءِ! هُوَ الجِسْمُ الأَثيريُّ الذي يُرافِقُ أَفْكارَنا وَأَجْسادَنا أَيْنَما حَلَلْنا؛ لِيُعينَنا عَلى التَّقَبُّلِ وَالتَّحَمُّلِ لِكُلِّ ما يُواجِهُنا، مِمّا لا نَرْضاهُ، أَو لا نَسْتَسيغُهُ في مِشْوارِنا الحَياتِيّ؛ لِيُصْبِحَ المُسانِدَ وَالمُحافِظَ عَلى ما يُعْجِبُنا؛ كَي نُحيطَهُ بِجِدارِ الدَّيمومَةِ؛ خَوْفًا مِن فَقْدِهِ، وَإِكْمالِ حَياتِنا مُتَحَسِّرينَ تائِهينَ.

هُوَ الدَّواءُ الذي نَبْتَلِعُهُ عِنْدَما تَسْبِقُ لامُ الكَلِمَةِ ميمَها؛ كَي نُهَدِّئَ مِن رَوْعِ وَوَجَعِ ما نَشْكو؛ وَنَتَجاوَزَ المِحْنَةَ التي قَد تُقْعِدُنا عَنِ الكَثيرِ مِمّا يَهُمُّنا. هُوَ التَّمَرُّدُ الذي يَشْهَرُ السِّلاحَ في وَجْهِ البَطْشِ وَالظُلْمِ الذي يَرْزَحُ تَحْتَهُ المَظْلومونَ. إِنَّهُ الفَتيلُ الذي يُشْعِلُ الشَّرارَةَ الأولى، وَتوقَدُ مِن حُروفِهِ شُعْلَةُ الاستِمرارِ حَتّى تَحْقيقِ الانتِصارِ. هُوَ خُيوطُ النّورِ المُضيئَةُ لِكَهْفِ النَّفْسِ التي خَبا نورُها يَهديها بَعْدَ أَنْ ضَلَّتِ الطَّريقَ؛ لِكَثْرَةِ ما تَعَثَّرَتْ بِهِ مِنْ حَصى التّيهِ وَالغِوايَة، وَرَكَنَتْ في زَوايا الإِحْباطِ وَالرَّتابَة؛ تَنْدبُ حَظَّها بِالمَواويلِ وَالعَتابا.

هُوَ الماءُ الذي يَرْوي تَصَحُّرَ العاطِفَةِ بَعْدَ طولِ جَفافٍ، فَيُعيدُ لَها طُموحَها؛ لِتَنْتَعِشَ وَتورِقَ وَتُثْمِرَ وَتَتَغَنّى بِخُضْرَةِ الواحَةِ، التي تَتَرَبَّعُ تَحْتَ وارِفِ ظِلِّها، وَتَقْطِفَ مِنْ ثِمارِ نَخْلِها رُطَبَ الوِصالِ، وَتَصْنَعَ مِنْ جَريدِها تاجَ تَحقيقِ المُنى وَتَغييرِ الأَحْوالِ. هُوَ الطّاقَةُ التي نَشْحَنُ بِها بطّاريَّةَ الاسْتِمرارِ في الحَياةِ، وَحُبِّها؛ رُغْمَ إِدْراكِنا أَنَّنا نَسيرُ في طَريقٍ مُؤَدٍ إِلى الفَناءِ، تارِكينَ كُلَّ ما جَمَعْناهُ واحتَضَنّاهُ مِن مادِيَّةِ هذِهِ الفانِيَةِ، وَجاهَدْنا مِنْ أَجْلِ الحُصولِ عَلَيْهِ. وَلَولاهُ لَكُنّا نَقْعُدُ في دُروبِ الحَسْرَةِ نادِبين، وَلِأَواخِرِ الأَيّامِ مُنْتَظِرين، بِأَجسادٍ كَليلَةٍ لا تُصْدِرُ إلّا الأَنين. هُوَ الذي يُجْلِسُنا عَلى مَفارِقِ الانتِظارِ؛ لِتَمُرَّ أَمانينا؛ وَنُمْسِكَ بِأَطْرافِ خُيوطِها قابِضينَ عَلى جَمْرِ الصَّبْرِ بِيَمينِنا؛ وَباسِطينَ شِمالَنا مُتَلَهّفينَ لِبَرْدِ وَسَلامِ تَحْقيقِها.

وَقَدْ يَطولُ الانتِظارُ سَنَواتٍ، فَلا نَمَلُّ، وَنَظَلُّ نَغْزِلُ بِمِغْزَلِ الأَمَلِ رَداءً بِأَلوانِ الأُمْنِياتِ. وَلكِنْ، قَدْ نُدَثِّرُ بِهِ خَيْباتِنا، وَنُلْقي بِهِ بَعيدًا إِلّا أَنَّنا نُعاوِدُ الغَزْلَ وَلا نَكِلُّ. هُوَ الذي يَنْزِعُ وَتَدَ ياءِ اليَأْسِ مِنْ جُلْمودِ الشُّؤْمِ، وَيُطْلِقُ يَمامَةَ التَّفاؤُلِ مُحَلِّقَةً في الأَعالي، وَيَكْسِرُ شُموخَ هَمْزَتِهِ المُشْرَئِبَّةِ بِعَصا الإحْباطِ، وَيَسْتِبْدِلُ بها هَمْزَةَ أُنْسٍ تَبْعَثُ عَلى السُّرورِ، وَتَدْفِنُ الشُرورَ، وَيَكْسِرُ سِوارَ سينِهِ؛ لِيَسْتَبْدِلَ بِها سين سُنْدُسِ الأَفكارِ التي تَبْسُطُ حَريرَها؛ لِتَسْتَقْبِلَ ما سَتَأْتي بِهِ الأَيّامُ، بِفَرَحٍ وَاطْمِئْنانٍ؛ هُوَ هُوَ هُوَ

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى