أدبنثر

تناسُلُ البياضِ

تناسلَ البياضُ مُنجبا صفاءَ حبّ القلب لك، والغطاء النّاصع الذي لفّ جسدك بألق، والدّنيا التي عشت فيها ولم تسطر على بيض صفحاتها إلّا الآهات المعجونة بالدّموع الخرساء ولم أفهم معاني حروفها التي بلّلت صفحات الخدّ الأسيل، حين تدفّقها من نبع المآقي، تناسل مرسلا ملاكا حمل روح الطّهر والبراءة إلى الأعالي بأحد جناحيه، وفارشا الصّمت على بياض أغطية سريرك بجناحه الآخر.

لحظات من نور لفّت المكان وغلّفت ببهائها كلّ شيء، وفرضت الرّهبة وعبق الخشوع أمام عِظم الموقف، ثمّ حلّقت روحي نحو الأعالي شاكرة الرّبّ الذي أسدل علينا غطاء من رحمته، حين أرسلك لنا وحين استردّك إليه لتسكن روحك مكانا أكثر جمالا وسكينة… فتفسد رهبتها كلمات النّدب والتّعديد تحسّرا على فراقك… تحوّلت الرّهبة إلى ثقل أوجعني، وأوقعني أرضا مشوّشا رؤيتي وكأنّ العتمة احتلّت الأجواء لتنيرها بعيد ذلك إضاءة شريط أيّامك التي قضيتَها بيننا قريبا وبعيدا، رغم أنّك كنت زادا نثر بركته على مائدة العائلة باختلافك عمّن تحلّقوا حولها غير منكرين لطعم ونكهة تواجدك، وشاكرين القوّة التي منحهم إيّاها عجزك.

لمّا كنت هناك وقفت حمائم أيك الشّوق تنشر سجعها في سماء الدّعاء راجية منك الوصال بكلمة تريح أجنحتها من كثرة الرّفرفة حولك…لكنّك لم تستجب لهديلها فراحت تنوح علّ الله ينطقك بردٍّ على نغمة أحزانها وتغريد فوق أغصان آمالها، إلّا أنّ القدر أبقاها تعزف على قيثارة أوجاعها، وهي ترى الشّفتين جامدتين، والعينين حائرتين لا تقويان على المساجلة، وظلّت قابعة في برج ملازمتك خوفا عليك من نسمة تلامس خدّك وتزعجك بدلا من ملامسة يد دافئة.

ولطالما سبحت الأفكار في بحر لجيّ متسائلة عن شعورك ومتمنّية معرفته منك أنت، وهي التي خطّته بريشة الفؤاد على صفحات اللحظات كي لا تغيب عن البال؛ خوفا من وخزة تشعر بها، ولا تتمكّن من التّعبير عن الاحتجاج لألمها.
لَكَم تساءلتُ: ترى هل أنت راضٍ عمّا يجيش في خاطري، ويغزله مغزل أفكاري؟ أم أنّ الخوف الزّائد عليك يزنّرك بحزام الضّيق، ويزيد من شدّ زنّار ضعف عضلاتك التي لا تقوى على تحريكك؟!

وتغمرني تساؤلات حدقَتَي عينيك حين اجتماع إخوتك حول سريرك مداعبين حرير شعرك، وكأنّهما تصرخان بي وتلومانني: لمَ لا تستطيع يداي العبث بشعري مثلهم، ولا تقدر قدماي على الوقوف واللعب معهم؟ لمَ أنا مختلف ولِكلّ ما ينعمون به مفتقد؟!
يحرقني لهيب التّساؤلات، ولكن ما يطفئ من نيران لوعتي أنّهم منك قريبون، وللاهتمام بك جاهزون.

تفتح روضات الأطفال أبوابها داعية كلّ البراعم إلى سهولها… أقف على باب روضة براعم الأمل وأتخيّلك جالسا بين أترابك، فأقف بانتظار خروجك، وصوتك يصدح مالئا الفضاء شدوا وضحكا… يطول الوقوف ولا تتحقّق للعين بغيتها، ولا للرّوح فرحتها لحظة يذكّرني طيفك أنّك هناك على فراش لا تبرعم الآمال فيه ولا تزهر. تتعاقب حلكة الليالي التي تسمعني أنينك الخافت وقت يغمض جفني المتورّم سهدا، فأهبّ مذعورة لنجدتك، ولكنّ تلك الأجفان تطبق على خيبة جهلي لما يبكيك؟

وتحملني آهات سهدي على بساط الخوف من التّقصير وعدم إرضائك؛ كوني أجهل سبب أنينك، وأظلّ في حيرة حتّى تجعلني نغمات صوتك أوقن أنّ الأمر فادح، ولا بدّ من تدخّل أهل العلم والطبّ لحقنك بما يهدّئ وجعك الذي كثيرا ما كانوا لأسبابه يتكهّنون، ولوجيب قلبي لوعة وإشفاقا عليك يزيدون لدى رؤيتك مقيّدا بأربطة أجهزة تحيط بك، وتراقب جديد ما سيطرأ عليك.

مكثت طويلا بينهم، لكنّهم لم يقووا على إبقائك بيننا؛ لأنّ إرادة الله أقوى من كلّ ما حاولوا وفشلوا، وما أرادوا ولم يعرفوا. وها أنت قد تناولتك يد الرّحمة لتقلّك إلى سرير الرّاحة السّرمديّة.

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى