علم نفس واجتماع

كوة من نور

” لكل منا كوة نحو الله تنفتح إن اغتم وتتسع رحابتها إن اشتد عليه الغم”، هكذا كان استهلال رواية “وجه الله” للروائي الإيراني مصطفى مستور، تلك الرواية التي تغوص من خلال شخوصها في أعماق الإنسان، لتبحث بأسلوب رشيق عن كنهه، وتفتش في وجدانه عن مراد حياته، فالرواية جمع لشتات الأسئلة الوجودية التي أفلح في تحصيل جوابها من أفلح، فسار على هدى من ربه، وخاب من خاب في كشف معناها، فمال به الهوى عن طريق الرشد، وزين له الشيطان عمله، فكان من أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا به يفترون. فالعبارة التي نُسِجت من خيوطها صفحات الرواية، والتي استوحيت منها عنوان “كوة من نور”، ستكون المنارة التي تضيء فقرات هذه المقالة، والفتحة التي نطل من خلالها على حال بعض شبابنا ممن أضحوا مذبذبين بين الشك واليقين، حائرين وسط ركام من الأفكار والمقولات الفلسفية، التي لا تروي ظمأ العطشى إلى سكينة من ارتووا بنور الحق، الباحثين عن شعلة تومض سُرْج اليقين في قلوبهم المعتمة، التواقين إلى حياة طيبة، حيث مستقر الأرواح ومستراحها.

كوة من نور هي ذلك الثقب النوراني الذي يصل الإنسان بعالم المعنى، والفرجة التي نبصر من خلالها حقيقة الوجود، إنها الفلق الذي يشق صدورا مُلِّئت قلقا وريبة، لتشع بضياء السكن، وتبرق يقينا وتسليما. فالكوة جزء لا ينفك عن قلب إنسان، إنها وديعة باطنية، أودعها الله في قلوب عباده، تتوسع في لحظات الصدق والصفاء، لتزيل عن القلوب حجب الظلام والضلال، فتعود لتسبح من جديد في فلك العبودية، مطمئنة مسلمة برب العباد، إنها القنديل الذي تهتدي به نفوس أتعبها الهوى واتباع الظن، فما عادت تستلذ الحياة، ولا تستشعر سبل السعادة، التي لا تتحقق إلا بانفتاح الجنان على أنوار السماء.

وما أحوجنا في هذا الزمان الذي اشتد فيه الغم على الأمة، فصارت طرائق قددا، أن نوسع الكوة نحو الله تعالى، علنا نستبصر بأنوار الغيب سبل النجاة من الفتن التي تتقاذف القلوب، في عصر طغت فيه التقنية، وأضحى الشباب هائما شاردا، يبحث عن منفذ لأسئلته الوجودية، وتطلعاته الفكرية، في بحر من التصورات المتضاربة، المتنافرة، التي يصعب على المرء أن يجد فيها ضالته، وإذا كان، فإن جواب أسئلته، سيكون مشوها مبتورا، لا يزيده إلا هلاكا وخسارا، كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، وكان وهم المعرفة حاصل جوابه.

فالتيه الوجودي الذي يحياه شبابنا ممن تمكنت منهم الشبهات والشهوات، هو معضلة جيل ضيع الطريق وفقد الوجهة، ولم تعد رؤيته مبنية على مرجعية يحتكم إليها، بله يعمل بموجبها، أمام السلب الفكري الذي أتى على هوية شبابنا، فلم يعد ينظر للآخر من منطلق الخيرية، وفخار الانتماء لهذا الدين، الذي يدعوا كما جاء على لسان رِبعي بن عامر D الإنسان للانتقال من خسة الأرض إلى سمو السماء، ومن استعباد البعض للبعض الآخر إلى عبادة إله العالم، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، حيث أضحت رؤيته لحضارة الآخر، رؤية المغلوب، وقراءته لفكره، قراءة المهزوم، وهكذا صار الكثير من أولئك المذبذبين يتخندقون وراء شكوكهم وأهوائهم، يحتمون بزخرف القول، ويتلفقون بألسنتهم ما لا يفقهونه من الألفاظ والعبارات، المنمقة والمعقدة، التي لا تزيد العقل إلا حيرة وتوهانا، ولا تورث القلب إلا وحشة وصدودا.

 وفي ظل هذا الوهن الفكري والاهتزاز الروحي الذي استشرى بين شباب الأمة، سقط البعض من أولئك الذين عمت بصائرهم في جحر التبعية للآخر، لينحدروا من مقام الكرامة والرفعة الموصولتان باتباع الشريعة، والاستمساك بالوحي كتبا وسنة، إلى سفول المهانة والدنية، بسلوك مسالك الآخر في سفسطة الكلام، وسفاهة الفكر، فما كان لكلام الله -سبحانه-عليهم من سلطان، ولا لحروف كتابه -جل وعلا-في قلوبهم من إذعان.

لكن أنَّى للأرواح أن تنفتح على أنوار الهدى القرآني، وأن تستشف من آياته مطالع اليقين، وهي مقفلة بسلاسل الريبة والشك، وأنَّى لكوة القلب أن تنفتح وهي مطمورة بدرن اللذات، وصاحبها في غياهب الجهل، فلو وقر هذا القرآن في قلوب أولئك اللذين صاروا في دروب الظن فتقطعت بهم السبل، لكان لسان حالهم كلسان حال الصحابي الجليل جبري بن مطعم-D- لما لمست نسائم القرآن شغاف قلبه، وهو يسمع رسول الله-H-آمًّا الناس في المغرب يتلو من سورة الطور، حتى إذا بلغ قوله تعالى: ©أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ¨، فقال: “والله ما سمعت هذه الآية حتى كاد قلبي يطير”، فانشرح صدره للإسلام، وسكنت روحه بكلام كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

 والأمثلة كثيرة تترا لأولئك اللذين كان القرآن نورا مرشدا لهم في ظلماء الوجود، وكتابا هاديا لهم وسط كثرة الآراء، فهو يهدي لخير الطريقة وأقوم المنهاج، فكم من حائر دلَّه، وكم من ضال بَصَّره، إنه ملاذ من ضيع سنين عمره يبحث عن جوهر وجوده في  كتب لا تزيد روحه إلا إفلاسا، معرضا عن كتاب الله تعالى الذي لا ريب فيه، قال رب العزة جل ثناؤه: ©إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ¨(سورة الإسراء:9)، وأصلح لحال الإنسان ومآله، وما أجمل تفسير الطاهر بن عاشور -رحمه الله تعالى- لنص هذه الآية حيث قال: “القرآن الكريم جاء بأسلوب من الإرشاد قويم ذي أفنان لا يحول دونه ودون الولوج إلى العقول حائل، ولا يغادر مسلكا إلى ناحية من نواحي الأخلاق والطبائع إلا سلكه إليها تحريضا أو تحذيرا، بحيث لا يعدم المتدبر في معانيه اجتناء ثمار أفنانه”[1]، لكنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، فالقرآن كما قال ابن قيم الجوزية -رحمه الله تعالى-: “بَصَّر لو صادف قلوبا من الفساد خالية، لكن عصفت على القلوب هذه الأهواء فأطفأت مصابيحها، وتمكنت منها آراء الرجال فأغلقت أبوابها وأضاعت مفاتيحها، وران عليها كَسبها فلم تجد حقائق القرآن إليها منفذا”[2].

فالترقي إلى مدارج اليقين، لا يكون إلا بربط القلب بالقرآن، فهما وتدبرا، فهو الشافي من أسقام القلوب، وأدواء العقول، قال تعالى: ©وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ¨(سورة الاسراء:82)، يقول الإمام محمد الرازي –رحمه الله تعالى-: “واعلم أن القرآن شفاء من الأمراض الروحانية، وشفاء أيضا من الأمراض الجسمانية، أما كونه شفاء من الأمراض الروحانية فظاهر، وذلك لأن الأمراض الروحانية نوعان: الاعتقادات الباطلة والأخلاق المذمومة، أما الاعتقادات الباطلة فأشدها فساداً الاعتقادات الفاسدة في الإلهيات والنبوات والمعاد والقدر والقرآن كتاب مشتمل على دلائل المذهب الحق في هذه المطالب، وإبطال المذاهب الباطلة فيها، ولما كان أقوى الأمراض الروحانية هو الخطأ في هذه المطالب والقرآن مشتمل على الدلائل الكاشفة عما في هذه المذاهب الباطلة من العيوب الباطلة، لا جرم كان القرآن شفاء من هذا النوع من المرض الروحي، وأما الأخلاق المذمومة فالقرآن مشتمل على تفصيلها وتعريف ما فيها من المفاسد والإرشاد إلى الأخلاق الفاضلة الكاملة والأعمال المحمودة، فكان القرآن شفاء من هذا النوع من المرض، فثبت أن القرآن شفاء من جميع هذه الأمراض الروحانية”[3].

ولما كثرت في عصرنا الشبهات، وأصبح من الهين اختراق الخصوصيات الفكرية والعقدية لكثير من الشباب، كان من ضرورات العصر أن نيمم وجوهنا شطر القرآن الكريم، ونجدد روح القرآن في قلوب أبنائنا، لأن الاعتقاد الحاصل كما يقول أبو حامد الغزالي –رحمه الله تعالى-بمجرد التقليد غير خال عن نوع من الضعف في الابتداء، على معنى: أنه يَقْبَل الإزالة بنقيضه لو أُلْقِيَ إليه. ولا بد من تقويته وإثباته في نفس الصبي والعامي، حتى يترسخ ولا يتزلزل، وليس الطريق في تقويته أن يعلم صنعة الجدل والكلام، بل يشتغل بتلاوة القرآن وتفسيره، وقراءة الحديث ومعانيه”[4]، فالتأسيس العقدي المتين لا تثبت دعائمه إلا بالإقبال على القرآن، الميسر للفهم على من يسره الله له، ووسع كوة قلبه في رحاب ألفاظه ومعانيه، ليتلقى من أنوار الوحي، ما يهدي قلبه ويثبت فؤاده.

فمن أراد أن يحدو بروحه إلى بلاد الأفراح، فليفتح كوة قلبه نحو كتاب ربه، وليكن إقباله على القرآن الكريم إقبال الموقن لا الشاك، الساعي إلى طلب الهداية من منبعها الصافي، فالقرآن هو “الكفيل بمصالح العباد، في المعاش والمعاد، والموصل لهم إلى سبيل الرشاد، فالحقيقة والطريقة، والأذواق والمواجيد الصحيحة، كلها لا تقتبس إلا من مشكاته، ولا تستثمر إلا من شجراته”[5]، وهنيئا لمن كان في خطاه إبراهيمي السير، متأسيا بخليل الله –عليه السلام-، طالبا الرشاد واليقين من مولاه ولسان حاله يقول: إني ذاهب إلى ربي سيهدين.

تم بحمد الله


[1] تفسير التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، الدار التونسية للطبع، تونس، (1984م)، ج(15)، ص(40-41)
[2] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد ونستعين، ابن قيم الجوزية، دار ابن الجوزي، القاهرة-مصر، ط(1)، (2012)، ج(1)، ص(5)
[3] مفاتيح الغيب، محمد الرازي، دار الفكر، بيروت-لبنان، ط(1)، (1981)، ج(21)، ص(135)
[4]  بداية الهداية، أبو حامد الغزالي، دار المنهاج، جدة-السعودية، ط(1)، (2019م)، ص(217)
[5]  مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد ونستعين، ابن قيم الجوزية، ج(1)، ص(8)

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى