قضايا ثقافية

لماذا الفن؟

ثلاث فراشات أعياهن صَفْقُ الريح، فنزلن على صخرة..
نظر إليهن الرائي يتملى بزخرفهن الجميل ..
ونظر إليهن آخر، فظنهن بنهمه يُؤْكَلن ويُشْبِعن من جوع، فلما أمسك بإحداهن ذات الألوان البهيجة، اندثرت بين مخالبه!
وأما الثالث، فتمنطق بمخالب العلم، والتقط واحدة ومزقها؛ فقتلها ليفهمها.

كذا، أحكي لأصف ثلاث زوايا في النظر إلى الوجود وطرائق التفاعل معه، تعكس ثلاث حاجات تحرك الكائن البشري، وتدفع بإيقاع ذاته نحو الإشباع العضوي، أو الإدراك العقلي، أو التذوق الجمالي.

لكن ما فائدة النظر الجمالي أمام أفعال ذات عائد مادي كالتهام الوجود؟ أو كسلوك مسلك التفسير العقلي الذي يُمَكِّنُنَا من الكشف عن قوانينه، فنتملكه ونسود عليه ؟

ما الفائدة من خطونا إلى متحف لمشاهدة رسوم مخطوطة، أو خربشات منحوتة على سطح صخر أو صفحة جدار؟

ما النفع الذي نجنيه من وقوفنا متسمرين لا نتحرك، ولا نريم أمام لوحة فنية لن نقتنيها، بل نستمتع بمشاهدتها بالنظر فقط ؟

ما الذي يجذبنا إلى مشهد الشفق في غروب الشمس؟ وما السر في ما نستشعره في نفوسنا من اعتمالات عميقة بمجرد مشاهدة حركة تدلي الشمس نحو الأفق في وقت المغيب؟

علام يدل ذاك الشعور بالانتشاء الذي نحس به ونحن نستمع إلى قطعة موسيقية أطربتنا، أو صوت مقرئ للقرآن أجاد ترتيله ؟

لا جواب إلا بالقول، إن ثمة حاجة أخرى في الكائن الإنساني تتجاوز حاجاته العضوية، وتتعالى عليها، كما تتجاوز حاجاته العقلية، وتغايرها . فإذا كانت بنيته العضوية تتطلب إشباعا ماديا يتحقق باستهلاك الطعام والشراب… وإذا كانت حاجته العقلية تعبيرا عن مطلب الفهم الذي يمايزه عن غيره من الكائنات؛ حيث لا يكتفي بعيش وجوده، بل يسعى إلى فهمه، فإن ثمة حاجة أخرى هي الحاجة الجمالية التي لا يتم إشباعها إلا بتذوق الجميل. وإذ نستعمل لفظ الإشباع هنا، فإننا نستدرك في الوقت ذاته للتوكيد على وجوب الوعي بالاختلاف الجوهري في أساليب وطرائق الإشباع بين الغريزة الجمالية من جهة، والغريزتين البيولوجية والمعرفية من جهة ثانية.

أجل إن الإنسان لا يقنع بعيش وجوده ولا بفهمه، بل يطلب تذوقه والاستمتاع به جماليا. إذ في الكائن البشري نزوع فطري نحو الجمال، فالعين والأذن ليستا مجرد حاستين لنقل الصور والمسموعات، بل ثمة ارتباط بين هاتين الحاستين والسمت الجمالي، فكما تَنْشَدُّ العين إلى المنظر الجميل، والسحنة الحسناء، تطرب الأذن بالإيقاع الناغم، والصوت الرخيم .

ومهما قل المستوى الإدراكي للإنسان، أو انحط ذوقه، أو افتقرت اهتماماته السامية، فإنه يبقى فيه هذا النزوع الجمالي كامنا يتمظهر حين يستفزه مثير جميل.

لذا حق لأولئك الفلاسفة الباحثين عن تحديد نوعي ماهوي للإنسان أن يعرفوه بأنه “كائن جمالي”؛ لأن نزوعه نحو الجمال ليس أقل تمظهرا من نزوعه العقلي المعرفي، هذا وإن كنا نرى في اختزال الماهية في محدد واحد أمرا لا يخلو من اعتساف.

لكن هل الحاجة الجمالية قابلة للإشباع حقا؟

أتستشعر حاجة إلى تكرار قراءة أو تَعَلُّمِ “2+2=4” ؟

لا، بالتأكيد.

لكن ما الذي يجعلنا نعيد فتح ديوان شعري لنقرأ قصيدا سبق أن قرأناه عشرات، بل ربما مئات المرات، بينما عندما نطالع مقالا في علم الرياضيات أو المنطق …، ونستوعب دلالته حق الاستيعاب، لا نشعر بتجدد الحاجة إلى تكرار قراءته ؛ كأن حاجة فهمه أشبعت وتم سدها نهائيا ؟

إن احتياجنا إلى الفن يتمظهر وفق قانون آخر ومنطق مغاير، إذ يبدو أقوى على صيرورة الزمن من الحاجة المعرفية والعضوية، كأنه لا حَدَّ له بإشباع واكتفاء.

وبناء على هذه الخصيصة المميزة لكيفية تفاعلنا مع النتاج الفني، لا ينبغي مقاربته بمنطق الإشباع العضوي، بل بمنطق الاحتياج النفسي .

أجل إن للفن اقتدارا غريبا على التأثير في النفس، والتغلغل في كيانها الداخلي… لذا تجد بعض الفلاسفة يرفعونه إلى مستوى الفعل العلاجي. وهذا ما نلحظه منذ أقدم لحظات تمظهر اللوغوس الفلسفي، ففيثاغور مثلا، اعتمد النغم الموسيقي وسيلةً علاجية، و في تحليله الوظيفي لفن المسرح أشار أرسطو إلى تلك الوظيفية العلاجية، وعبر عنها بمفهوم “الكتارسيز”، أي تطهير النفس . كما أشار إليها ابن سينا وتلميذه الحسن بن زيلة، وكذا ابن عبد ربه، عند توكيدهم على الفن كأسلوب علاجي، بل حتى السلوك العفوي للإنسان هو توكيد فعلي لهذه القدرة العلاجية . إذ كثيرا ما نجد أنفسنا نميل تلقائيا، عندما تشتد علينا أثقال وهموم الحياة، إلى الإنصات إلى نغم جميل، أو التملي بمشاهدة منظر طبيعي .

بل يبدو الفن قادرا على إنشاء مشاعر الحزن والفرح من تلقاء ذاته، دونما باعث خارجي فعلي .

ألا يتحدث الكثيرون عن شعورهم الذي يتقلب ويتكثف فيصير حزينا بمجرد الإنصات إلى السيمفونية التاسعة لبتهوفن؟

ألم تتحدث الحكاية، سواء صحت أو لم تصح، عن القدرة الموسيقية للفيلسوف الفارابي في الإضحاك والإبكاء بمجرد ضربه للوتر؟

يروي ابن خلكان في “وفيات الأعيان” أن أبا نصر الفارابي كان أول من وضع آلة القانون، وأنه كان مجيدا في العزف عليها على نحو غريب مدهش، حتى يحكى أنه دخل يوما على سيف الدولة الحمداني في مجلسه، فقال له: “هل لك في أن تسمع؟ فقال: نعم، فأمر سيف الدولة بإحضار القيان، فحضر كل ماهر في هذه الصناعة بأنواع الملاهي، فلم يحرك أحد منهم آلته إلا وعابه أبو نصر وقال له: أخطأت، فقال له سيف الدولة: وهل تحسن في هذه الصناعة شيئاً؟ فقال: نعم، ثم أخرج من وسطه خريطة ففتحها وأخرج منها عيداناً وركبها، ثم لعب بها، فضحك كل من كان في المجلس، ثم فكها وركبها تركيباً آخر وضرب بها فبكى كل من في المجلس، ثم فكها وغير تركيبها وحركها فنام كل من في المجلس حتى البواب، فتركهم نياماً وخرج”.

لا ريب أن في حكاية التنويم هذه أسطرة وتخريف، لكن أرى في دلالتها على تأثير الفن في النفس مقدارا من الصحة والصواب لا يخلخله شك، ولا تناله ظِنَّةٌ.

وعود إلى الاستفهام الذي عنونا به هذه السطور: لماذا الفن؟

نقول: إننا لا نبتغي الإجابة بمنطق وظيفي، فالنظر إلى الفن من منظار الوظيفة يؤدي إلى قراءة اختزالية، فينهيه بانتهاء الغاية التي تتغياها تلك الوظيفة، وينفيه بتحققها.

لقد نظر أرسطو منذ القدم إلى النموذج الفني المسرحي من منظار “الكتارسيز”، فاختزله في وظيفة نفسية مفادها تطهير النفس. ونظرت الفلسفات الواقعية إلى الفن، فرأت فيه مجرد مرآة تعكس الواقع بلغة أدبية، ونظرت إليه الإيديولوجيات بمنظار التوظيف السياسي، فرأت فيه مجرد أداة لتحريك الفرد والاجتماع ليسيرا في الاتجاه المذهبي التي تريده تلك الايدولوجيا.

إن الحاجة إلى الفن، ينبغي ألا تقرأ من منظور وظيفي كهذا الذي انتهجته هذه التوجهات الفلسفية، بل ينبغي أن ننظر إليه من مدخل الكينونة الإنسانية، فنقاربه بوصفه بعدا وجوديا من أبعادها الخِلقية. ومن ثم يكون جوابنا عن سؤال “لماذا الفن ؟” هو:

لأن الفن بعد من الأبعاد الماهوية للإنسان.

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى