فكرمعتقدات

إعادة الاعتبار للنص المقدس

تروي الطُرفة أنَّ طالبًا كان يقرأ القرآن، وكان يخطئ ويتلعثم كثيرًا، وكان الأستاذ يرده المرة بعد المرة، فلما أثقل عليه صاح التلميذ معترضا:
– وهل أخطأت في البخاري؟!

وكأن الخطأ في البخاري أشنع وأقسى من خطئه في قراءة كتاب الله! والواقع أنَّ أولويات التقديس في الوعي الجمعي للمسلمين أخذت تتزحزح رويدًا، رويدا، انحرافًا عن المقدس الأصلي الذي أنزله المولى عز وجل في محكم آياته، إلى مقدس ظني ألزموا به أنفسهم!

فمن البديهات التي لا يختلف عليها عموم المسلمين أنَّ النصوص المقدسة في الإسلام التي عليها مدار الحلال والحرام والعبادة والتشريع هي ابتداءًا وتأصيلا القرآن الكريم ثم السُّنة النبوية.. وأنَّ نصوص القرآن الكريم كلها قطعية الثبوت في كتاب تكفَّل المولى عز وجل بحفظه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) سورة الحجر9، وإنَّ بعض هذه النصوص قطعية الثبوت قطعي الدلالة، أي آيات محكمات ليس بوسع مسلم أن يتأوَّل دلالات المعني فيهن فهي أصول الدين وثوابته.. ومن نصوص القرآن قطعية الثبوت ما هي ظنية الدلالة، أي تحتمل عدَّة وجوه وتأويلات.. وترك تفسير مضامينها لاجتهاد ذوي الاجتهاد من أهل العلم.. أمَّا السُنَّة النبوية التي هي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي، فمنها نصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة.. وهذه محكمة وتعمل في التشريع كعمل قطعية الدلالة من القرآن الكريم.. ومنها نصوص قطعية الثبوت ظنية الدلالة تختلف فيها الأفهام وتقبل في تأويلها الاجتهاد.. ومنها كذلك نصوص ظنية الثبوت قطعية الدلالة.. ثم نصوص ظنية الثبوت ظنية الدلالة.. وهذه أحاديث غير ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بطرق الإثبات الصحيحة في علوم الحديث، وهي كذلك غير محكمة الدلالة فتقبل تعدد التأويل والفهم..

ومن المنطق والبداهة أن يكون عمود التشريع في الإسلام هو النص قطعي الثبوت قطعي الدلالة من القرآن الكريم والسُنَّة النبوية، ثم قطعي الثبوت ظني الدلالة من القرآن الكريم، ثم قطعي الثبوت ظني الدلالة من السُنَّة النبوية.. وليس من المقبول مثلا تقديم حديث نبوي ظني الثبوت على آية في كتاب الله! فإذا كان هذا هو حال المنطق والمنهجية فيما يُنسب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ظنًا، بحيث لا يتقدَّم عن المقدس من النص القرآني -وكله مقدس- فكيف الحال مع اجتهاد المجتهدين من العلماء والأئمة والفقهاء؟ هل يجوز منطقًا تقديم اجتهاد العلماء على الثابت من السُنَّة النبوية أو القطعي الدلالة من القرآن الكريم؟ أم يتأخَّر النظر في اجتهادهم إلى منزلة ما بعد القرآن والسُنَّة؟

ومن البديهيات كذلك أنَّ اجتهاد الأئمة لم يكن نصًا مع، أو نصًا موازيًا للنص المقدس، وإنما كان -ويجب أن يظل- تأويلا أو استنباطًا أو تفسيرًا أو فهمًا للنص المقدس الأصلي..

ثم تعاقبت على الأُمَّة المسلمة عصور القوة والضعف، وتعاقب النهار المشرق وعصور الظلام.. وضعف الاجتهاد حينًا ونزعت الأُمَّة إلى التقليد، وورث المسلمون تراثًا إسلاميًا اختلط فيه القرآن الكريم والسُنَّة النبوية واجتهادات المجتهدين وتأويلات المتأوِّلين وفهم الأتباع، فخلطت أحيانًا بين تقديس المقدس الأصلي الذي قدَّسه المولى عز وجل، وبين ما هو من اجتهادات البشر في فهم وتأويل المقدس، فقدَّسته من جملة ما قدَّستْ.. وأصبح النيل من التأويل أو معارضته في محاولة تنقية النص الأصلي كأنها خطأ في آي الله أو في ذات الله عز وجل.. وتجلت الطُرفة حقيقة، وأصبح البخاري ومسلم على شموخهما وعظمتهما أشد قداسة من كتاب الله، أو على قدم المساواة في القداسة مع كتاب الله.. ونتج عن ذلك في التطبيق والحركة، أو الحياة بالإسلام اختلافًا وانقسامًا وصراعًا بين تيارات المسلمين، يختصم بعضها بعضًا في تقديس التأويل أو تقديس الأئمة والعلماء.. كما أنتج ذلك مدرسة تريد أن تُنكر السُنَّة كلها والاكتفاء بالقرآن الكريم بذريعة عدم تواتر وثبوت الكثير من نصوصها، واحتواء بعض كتبها الكبرى على بعض نصوص تُعارض صريح القرآن الكريم.. وانبثقت عنها مدرسة أشد تطرفًا تشكِّك في الثوابت كلها، تريد أن تُحاكم النص المقدَّس بالعقل.. فما عقلنا بعقلنا المجرد القاصر تبعناه وقدسناه، وما لم يقبله العقل العاجز نبذناه! في محاولة تلبَّست بعض مثقفي العرب لإحياء مذهب الأناركية -الفوضوية ولا سلطوية-للتشكيك في كل ما هو ثابت ونفي المقدس وتجاوزه أو القفز عليه.. وفي مقابل هذه الهجمة على السُنَّة كلها، وعلى الثوابت أيضًا مدرسة تعصَّبت للتراث كله غثه وسمينه، بزعم سد الذرائع، وهي حيلة اجتماعية قديمة أن يُقابل كل تطرُّف، بتطرف مقابل في الاتجاه المضاد.. مما يؤجِّج الصراع من أجل الصراع وليس طلبًا للحقيقة..

نحن في حاجة قصوى الآن إلى إعادة الاعتبار إلى المقدس الأصلي، وترتيب الاحترام للنصوص والتراث وفق المنطق الذي يقدِّم القرآن على السُنة؛ والسُنة الثابتة على ما يليها من تفسيرات واجتهادات.. فلا اجتهاد مع النص القطعي الثبوت والدلالة.. ونُحاكم التراث والنقل والعقل كلهم إلى النص القطعى قرآنًا وسُنة.. فالنص الأصلي يعلو ولا يُعلى عليه.. وهذا يحتاج قطعًا إلى مشروع ضخم ومتجرد وواعي يقوم عليه وبه أولو العزم من أهل العلم والاختصاص وأصحاب الاجتهاد، لمراجعة وتنقيح التُراث وتصويبه بالقرآن الكريم أولا، وبالسُنة النبوية الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ثانيًا..

هذا المشروع العملاق لتنقية التُراث من شوائب علقت به إمَّا لأسباب وظروف سياسية أو لخطأ في النقل، أو في فهم وتأويل الوقائع، سيعمل بمثابة سد منيع أمام انقسامات المسلمين حول الفرعيات، ويحول دون نفاد مشروعات الأناركية العرب والمسلمين، ويحمي الشباب كذلك من الإلحاد ومن التعصب والغلو لمدارس لا تُمثِّل سوى اجتهادات أصحابها لفهم النص الأصلي.

اظهر المزيد

‫4 تعليقات

  1. نحن بحاجة لإحياء علم هو ميزان الأحكام والفهم وهو علم أصول الفقه. فغالب من يخوضون في هذا يكون غلطهم من فقدهم لملكة هذا العلم وأقصد هنا الملكة بما تحتويه من معنى. فهو بنظري تلك العدسة التي ينبغي النظر من خلالها لتصحيح الرؤية ونفي الغبش عنها. فدعوى التجديد تحتاج إلى العلم بما سيتم تجديده ونفض الغبار عنه.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى