أدبنثر

أسطورة ضوء

ضاقت بي الحروف وهي تقبع في خلوة الغروب وهي تبحث في بستان الحبر عن معنى الحرفين. غياب الصوت ألهمها الأحلام، علّمها كيف تمارس العقوق، ودرّبها سبل المناجاة. فهل يا أنت يلزمك الناي كي تغني البكاء على أوتار الرحيل أم أنك الماء الذي يمحو كل الخطوات للحنين. أما علمت بأنني سأقطع كل الدروب المؤدية للغياب وأعلن التمرد على الجفاء كي يبقى فتيل الروح يضيء شمعة اللقاء؟

أقرأ على شمس الصباح وِرْدَ الشوق وأنا أقشّر الطريق زهرةً زهرةً بكامل وحدتي. كلما غاب ضوؤك عني، أهش العتمة عن عيوني، وأسرج قنديل الانتظار مسيرة صبر ومئة عام من الدفء. ما كنت لأترك نوارس القلب تثرثر حكايات الرحيل، وما كنت لأدع هذيان الحرف يلقي القصيدة المعتقة بعطرك، على أوتار الغياب. بل سأبقى الهلال الذي ينتظرك بدراً وسط السماء، وسأعدّ النجوم بأنامل القمر نجمة نجمة كي نحتفل بألحان المطر وهي تأرج من العطر ألحانًا حالمة على خصر الصباح.

يطل علي هذا الصباح وهو صفر اليدين. لم يوشوشني عن الأحباب بعطر أو بريق ندى. أنفض القلب بين راحتيه لعله يزهر أملًا؛ فيبكيني وجعا على ما غاب من جوى. أأكون بين ذرات الغياب أخطو الجفاء أم الغياب من يكتبني لوحة؟! لم أعد أحصي الأقلام التي رسمت حدود الدمعة، ولم يعد للحرف محبرة، وأنا علقتني بين الأحداق أنتظر من الحلم نظرة وبين الكفين هيأت المشنقة.

ويأتي الخريف، والربيع ما زال تحت الأجداث، يقتل جماله ويعتق الصمت من جديد. تبكيني النجوم وهي تعدّ وريقات عمري في الذبول. وحين يغفو الليل على كتف الفجر أمشي وخلفي الغبار، أغافل الأحزان من أفق العتمة ومن عيون الماضي لترحل الغربان. وتتسلل نفحات الحنين من نوافذ الشروق، وتشدو الحب يمامة بيضاء قد غادرها الطوفان. وأنا أتشبث بأنني سأكون آخر ورقة بين أروقة الريح، سأعاند اتجاه الروح، وسأغادر التصاقي بالورق.

هل ما يزال الحبر على خاصرة الكلمات يتراقص حزنًا، أم أنه ينتظر أقداح الريح تبعثره في وجوه السطور وتحت أقدام الحروف؟! لم يعد يتنفس من المعاجم إلا بقايا أشلاء معاني أضاعت ضوءها بين النازحين وفي صدر الدجى. لم يعد في صحوةٍ من كثرة الوشاة والأميين فقد عاد يبكي من وشوشة الجهالة بين أصابع السقوط بالرغم من تهافت النور على خدّ الكلمات.
بشرتني التي هي تنسج النور من عينيها بأنني على صفحة ذاكرتك زهرة، أشرب الألوان سحرا قبل أن تسقط أوراق الذكريات في غفوة، وقبل أن تمتد أذرع النسيان للحلم الذي رسم للعمر شمعة.

سأغادر جسد لغتي العرجاء، وثوب الجفاف، وأحمل مصباح الذكريات خبزًا أقتات منه ضياء البوح؛ ليشتعل فتيل الروح بين ضلوع الأمل، ولأرعى حدائق الأحلام عند أقدام النور، ولأزرع بين الطرقات من جديد قمح اللقاء؛ فتزهر ابتساماتي ويزهر وجه الغد بابتسامة يقين مرددا معي أسطورة ضوء أنا لم يكتشفني بعد الربيع.

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى