فنونمسرح وسينما

الخطاب المعرفي وجماليات التشكيل

عرض استقرائي لتجريبية (المسرح الحديث)

تمهيد

المعرفة لا تنفصل عن غاياتها، وأهدافها الإنسانية النبيلة ككلّ متكامل تتداخل فيه الأجزاء، وتلتقي معه ضمن المسار العام والمسرح جزء لا يتجزأ منها، انه وبحسب القلعه جي “منتج فني جمالي، ومنتج للفكر الانساني، وحامل له من خلال الكلمة والرموز والدلالات التي تحملها عناصر العرض المسرحي” ولم يكن يوما ما بعيدا عن المجريات الاجتماعية، والاحداث السياسية، واحتقانات الديموقراطية، والقهر الداخلي والخارجي ودورهما في الضغط على الفرد والجماعة، واستلاب الحقوق الوطنية ومصادرتها بشعارات ديموغاغية. ولهذا كله ارتضى المسرح لنفسه الوقوف على خشبة المعارضة ـــ التحريضية والتغييرية ـــ للسياسات القمعية، والتعفسية والمصادرة لحريات الإنسان على مر التاريخ بدءًا من المسرح الاغريقي وحتى يومنا هذا. إن محاولة طرح المعرفة بعيدا عن المسرح كونه شكلا فنيا بحتاً لم يكتب لها غير الفشل على مر العصور. كما أن المحاولات المحدثة التي جاءت تحت دعوى موت المؤلف المسرحي، والكلمة، وابدالهما بالصورة، والسينوغرافيا، والبهرجة المدهشة، واعتماد جسد الممثل لغة بديلة ووحيدة في العرض المسرحي لن تستطيع الثبات أمام حاجات الانسان المعرفية، ورغبته في اكتشاف العالم، واسراره، وخفاياه، وموقعه بين تلك الأسرار والخفايا.

نشوء المسرح الحديث

المسرح ومنذ نشأته لم يكن ليعنى بجانب شكلاني حسب. وهذا ما جعله قريبا من الناس أكثر من الأجناس المعرفية الأخرى ناهيك عن طبيعته الإجتماعية التي تجعل منه نشاطا جماعياً يشترك فيه الكاتب، والمخرج، والممثل، والجمهور كل حسب دوره، وتأثيره، وتفاعليته. وبسبب نشاطه الاجتماعي هذا فانه اقترب من السياسة كثيرا كونها مصدر الاضطرابات المحلية والعالمية التي أدت الى الضغط المستمر على الحياة البشرية بما يكفي لجعلها مصدرا للمعانات المستمرة. وعبر تاريخنا الحديث مر المسرح بتجارب فريدة ومتميزة أكدت في مجملها حرص المسرح على نقل الخطاب المعرفي وجماليات التشكيل الى المجتمع البشري لتحسين حاله بعد أن وصل جرّاء الحروب والدمار الى أسوأ مرتبة في الواقع المعيش. ولقد استطاع القلعه جي أن يلقي الأضواء على تلك التجارب في كتابه قيد القراءة (المسرح الحديث) بدءًا من مخاض ما قبل الولادة مع مسرح تشيخوف المتمثل بواقعيته وقدرته على الغوص في تفاصيل الحياة اليومية وتراجعاتها، وانتهاءً بمسرح ما بعد الحداثة أو كما اطلق عليه القلعه جي مسرح ما بعد التجريب بكل سلبياته وايجابياته، وقيمه الفكرية المتباينة واشكاله الجمالية الجديدة مروراً بالمسرح التعبيري، والمسرح الملحمي، والمسرح التسجيلي، والمسرح الطليعي. ولعل أهم ما امتازت به هذه التغييرات انها لم تجرف معها اجناس متاخمة مثل الاوبريت، والاوبرا على سبيل المثال. والأهم من هذا كله أن القلعه جي ركز في بحثه عن (قدر المسرح) على المسرح العربي الحديث، وعلى انطلاقه في المعالجة والتحليل من السياسة باعتبارها مؤثرا سلبيا كبيرا على الحياة العربية نظرا لتأزم الوضع العربي، وتدهوره، وسقوطه ضحية تحت براثن القهر السياسي المزدوج.

الموضوع السياسي عموما ما يزال (مصيريا) من اهتمام الشعوب العربية الأشد معاناة من شعوب العالم كلها. وبسبب ثقل الواقع السياسي المزدري، وبسبب التهور المستمر، والخراب، والضياع و..و..الخ لم يستطع المسرح النهوض بمهامه وسط سبل التخريب والتدمير الجزئي أو الكلي من القوى الاستهتارية الداخلية أو الخارجية. وهذا كله يشكل تحديا لمسرحنا المعاصر يحتم عليه الأخذ بشرف المبادرة النهضوية المعرفية التي تنير الدرب في ظلمات ما يحدث لنا أو ما يخطط للقيام به من تحريك وتفعيل للقوى الشعبية وزجها في معارك لا ناقة لها فيها غير الموت، ولا جمل غير الخسارات. لقد تحول العربي الى مشروع دائم للاستنزاف الذي سوف لن يتوقف اندالاقه ما لم يشق المسرح طريقه الى سواد الناس.

من هذا كله نستنج مدى ارتباط ما هو مسرحي بما هو سياسي وكأن قدر المسرح العربي أن يكون سياسيا، وان ينطلق في كل معالجاته من الوضع السياسي باشكال فنية مختلفة تستلهم التجارب السابقة، وتنطلق من حتمية النهوض بالمجتمعات العربية، ولا شيء ينهض بالمسرح غير التجريب كما يقول القلعه جي في تقديمه لـ(كتاب الصوامت)،(1) ولا أحد ينهض بالواقع المعيش غير المبدع وبخاصة المبدِع المسرحي الذي لا يمكن أن يكون إلا في موقع المعارضة والرفض والكشف والتحليل العقلي كما يقول القلعه جي. فالمبدِع في صدام دائم مع السائد السياسي والإجتماعي وتلك هي الطاقة التي تحافظ على ديمومة الحركة في الحياة. ولكن كيف للأحداث وما يدور في الساحة السياسية أن تكون في متناول المبدع المسرحي ذلك هو السؤال الذي ما يزال يبحث عن إجابة محددة، فضلا عن الكيفية التي على وفقها يستطيع المسرحي مصارعة جهات مختلفة كالرقابة السياسية باختلاف درجاتها، والغزو الوارد من شواطئ العولمة، وأنظمة سياسية جاثمة بشكل كابوسي على صدر مواطن فَقَدَ الحس الجمعي بالألم، والمشاركة في الحدث أما لأنه ثري أو لأنه فقير يقضي يومه في لهاث دائم وراء لقمة العيش. ومن هذا الإستنتاج يمكننا أن نحدد مستلزمات المبدع المسرحي للنهوض بالحركة المسرحية العربية:

مستلزمات المبدع المسرحي

· على المسرحي إذن “ان يخترق الواقع السياسي، فيكشف ويواجه ويصوِّر ويصادم، ينمي الوعي ويقوده، مسرحٍ يقود فيه المسرحي المتلقي إلى عمق الواقعة السياسية” دون أن يدع مجالاً للسلطة فتح أبواب جحيمها على البشر.

· على المسرحي أن يواجه العولمة والمتعولمين باعتبارهما أداتي فرض للمشروع المادي والثقافي المنطوي على فكرة تحويل العالم الى قرية صغيرة يسهل السيطرة عليها والتحكم بها، وبمصائر شعوبها لصالح القطب المسيطر الواحد المدعوم اقتصاديا وثقافيا.

· على المسرحي الحفاظ على أصالته وارتباطه الشديد بأرثه الحضاري، وتراثه العريق، وتاريخه الممتدة جذوره في (الفرجة) المسرحية العربية، وفي الوقت نفسه يقف الى جانب العالمية “التي تحتفظ ببعدها الإنساني، وتحترم خصائص الشعوب واستقلال هوياتها، وتعدد ثقافاتها”.

· على المسرحي أن يعنى بالتلاقح الحضاري، والمثاقفة مع الإرث الإنساني الهائل. وسوف لن يتحقق له هذا ما لم تستمر عملية تأصيله ـــ بالوتائر نفسها ـــ والتي نهض بمهمتها رجالات المسرح العربي منذ نشأته الأولى على أيدي رواده العرب مثل: مارون النقاش في لبنان، وأبي خليل القباني في سوريا، ويعقوب صنوع في مصر، والشماس حنا حبش في العراق، وانتهاءً بآخر رجالاته المحدثين. وما أسطرة زمن العولمة والترغيب بها أو التمويه بما تضمنته من ايجابيات إلا محاولة في إذابته داخل مصهر القطب المتحكم الواحد. لذا ينبغي على المبدع ـــ والقول هنا للقلعه جي ـــ “الولوج بقوة في العصر بأن نكون منتجين للثقافة الإنسانية الحقيقية التي تقدم نفسها للعالم فكراً وإبداعاً وأدباً وفنّاً، ولدينا من وسائل الثقافة والاتصال ما لدى غيرنا من مسرح وفضائيات وتشكيل وموسيقا وآداب”.

· على المسرحي أن يقف بوجه الموجة العاتية لدكتاتورية الرأسمالية العالمية المتمثلة بالولايات المتحدة الأمريكية وغزوها للعالم بالقوة الناعمة ـــ كما أطلق عليها القلعه جي ـــ مستخدمة التأثير السحري للرقص، والموسيقى، وفنون الدراما أيام الحرب الباردة. يقول القلعه جي واصفا هذا: “إنه إرهاب الموسيقى الذي يتسلل بنعومة جلد الأفعى الى كل العالم المتعطش للحياة وفق النموذج الأميركي المتحرر من كل القيم والأخلاق، تسلل إلى دول المنظومة السوفيتية السابقة وأوروبا الشرقية والدول العربية والصين مما دعا بعضهم إلى تحصين نفسه ضد الهيمنة أحادية الجانب على غرار ما فعلته كوريا الجنوبية التي عبرت عن رفضها للثقافة الأميركية من خلال إقامة مركز سياحي يهتم بالدراما والرقص والموسيقى الكورية ويوفر قاعدة ثقافية لشرق آسيا لتتمسك بهويتها أمام الثقافة الغربية التي تتزعمها هوليود بعيدا عن ثقافة البوب والراب والهيب هوب الأمريكية”.

· على المسرحي كمحصلة حاصل أيضا أن يختبر معطيات ما بعد الحداثة التي جاء بها طوفان العولمة لينتقي ما يغني منظومته الفكرية، ويرفض ما لا ينسجم معها، مع الافادة من من المبتكرات والتقنيات التي تغني تجربته المسرحية.

التجرية التشيخوفية

إن عبد الفتاح رواس قلعه جي وهو يغور في جوهر التجربة المسرحية كاشفاً مواقع الخلل فيها، ومؤكداً على مواضعها السليمة خبر المسرح بكل فروعه وأصوله فهو يتحدث ــ على سبيل المثال ـــ عن التجربة التشيخوفية كعلامة بارزة في المسرح الحديث ذلك أنها استطاعت كسر القيود الأرسطية للمسرح، واختطت لها طريقاً مختلفة تماما عما سبقها من التجارب. لقد اشتغل تشيخوف على جر بساط الخشبة من تحت الطبقة الوسطى وأوهامها ليمده تحت أقدام الفقراء والمعوزين، ولينتج أدبا محدثا يستند الى حياة الفقراء وتجاربهم، ومعاناتهم اليومية والتفصيلية بطريقة تشي بما خفي وراء تلك الحياة. فهو لا يصور حياتهم تصويرا فوتوغرافيا بل يتجاوز تلك الفوتوغرافيا بالكشف عن آلام الناس، وآمالهم. ومع أن التجربة التشيخوفية قوبلت برفض واستهجان النقاد والأدباء ووصفت على أنها كلام فارغ أو أن الكلمات فيها أكوام على اكوام بلا هدف ولا معنى ـــ كما صرح بهذا الكاتب الكبير تولستوي في معرض تناوله لمسرحية النورس ـــ الا انها استطاعت الثبات في وجه هذه المواقف، والمضي قدما ضد التيار الانتقادي الذي وجد فيها تجربة فاشلة. وعلى الرغم من كل المواقف الاستهجانية المضادة استطاعت التجربة التشيخوفية ان تسجل لتشيخوف قدرته على انجاز الأعمال التجريبية المهمة التي ظلت حتى يومنا هذا منهلاً للدارسين، والباحثين، والمتابعين للحركة المسرحية في كل ارجاء العالم. ويرجع القلعه جي سبب ذلك الى نوعية الأحداث، وواقعية تشيخوف القائمة على فلسفة العادي، والنائية عن المثير والمدهش من الأحداث، وكل ما لا يمثل الحياة في حركتها الطبيعية.

ولعل تشيخوف من أكثر الكتاب استلهاما لسيرته الشخصية فأعماله الدرامية والقصصية تضمنت على الكثير من الإشارات المباشرة وغير المباشرة لما حدث له مذ أصبح ـــ في فتوته ـــ غريبا في داره ثم مغادرة داره الى الأبد. إن هذا البيت هو الحاضن الكبير لكل ذكريات تشيخوف بقسوتها ومرارتها وحلاوتها، وهو الملاذ الذي تختلط بين جدرانه المتعة، والأمل، والحنين. لقد علمه الفقر كيف يكون قريباً من بسطاء الناس، ومنحه أكثر من سبب لخدمتهم وهذا ما فعله لهم كطبيب وكاتب وإنسان. وربما أفاد من خبرته كطبيب في تحديد نوع المرض من الأعراض العادية له فرصد الأحداث التي لا تثير الإهتمام ـــ كما يقول القلعه جي ـــ وجزيئات الحياة اليومية ليصل في مسرحياته من اعراض الحياة العاديّة، والعلاقات الإنسانية البسيطة الى تحديد المعنى الكبير الذي هو توق الإنسانية وأملها. إن القلعه جي كما هو دأبه حريص على إظهار الجوانب التجريبية في مسرح تشيخوف والمغايرة البيّنة بينه وبين من سبقوه وتجدر الإشارة هنا الى ما قام به تشيخوف من الغاء لدور الشخصيات الارستقراطية لتحل محلها الشخصيات الشعبية، والغاء دور المسرحية الارستقراطية لتحل محلها المسرحية الشعبية. وهذا العمل غير المسبوق منح تشيخوف ريادة استحقها، وسبقاً قذف به الى مصافي التجريب المسرحي، وحوَّل منجزه الى مدرسة أو مذهب جديد ترك أثره على المسرح العالمي جيلا بعد جيل. يقول القلعه جي بتأكيد كبير:

“لم يكن مذهبه ثورة على المسرح الكلاسيكي فحسب وإنما هو ثورة على المسرح الرومانسي أيضاً والذي يعتبر نموذجه المفضل هو الإنسان الخيالي الباكي الذي يتحمل الكثير من الآلام والعذاب”.

إن قدر الحياة التغير، وكمالها بكثرة تغيرها. وهذا ما يفسر لنا حركة التغيير في جوهر المذاهب الأدبية والفنية. ولسنا هنا لتفضيل مذهب على آخر فلكل مذهب ظرفه أو ظروفه الموضوعية التي حتمت ولادته انسجاما مع تطلع الانسانية في مرحلة زمنية هي العمر الحقيقي لكل مذهب أو مدرسة سبقت الواقعية وشكلت مرحلة مهمة من مراحل تاريخ الأدب والفن.

المذهب التعبيري

التعبيرية هي التطور الطبيعي في جوهر تلك المذاهب وهي الوليد الشرعي للكلاسيكية، والرومانسة، والواقعية. واذا عدنا الى مؤلف (المسرح الحديث) سنجد أنه عرَّف التعبيرية بدقة حين قال:

“التعبيرية مذهب أدبي فلسفي تجريبي يعطي الأديب والفنان فيه للتجربة بعداً ذاتيًّا ونفسيّاً وذلك على عكس الانطباعية التي تركز على التعبير عن الانطباع الخارجي. وهكذا تصبح مهمة الأدب أو الفن من الناحية العملية هي تنشيط عقل الإنسان ووجدانه، ومنعهما من الركود والبلادة، وليس مجرد تقديم صورة انطباعية للواقع الخارجي، أي أن التعبيرية تجسد جوهر الأشياء، وما هو مسكوت عنه، فهي اختراق للمألوف والمنطق المتعارف عليه والمعقول، للكشف عن لا معقولية الحياة الإنسانية”.

إن ما تسعى التعبيرية الى تحقيقه في الأدب هو قصر مهمته على تفعيل العقل، وتثويره، وعدم السماح له بالركود والركون الى البلادة.

ثمة أكثر من سؤال يطرح نفسه علينا ـــ بمرارة واصرار ـــ ونحن نتناول هذه المذاهب الأدبية: لماذا لم ينشأ أي مذهب منها عربياً؟ ولماذا ارتضينا لأنفسنا أن نكون مستوردين لها حسب؟ ولماذا تحوَّلنا الى صنّاع لا خالقين؟ ولماذا بقينا مستهلكين غير منتجين؟ يبدو أن القلعه جي ـــ من خلال طرحه لجوهر تلك القضية ـــ كان على درجة عالية من الثقة في أن هذه الحقائق “تندرج في قائمة البضائع والعادات والقيم التي نستوردها من الغرب” وعلى أية حال فان المسرح العربي اليوم بدأ الإشتغال على مزج المناهج والمذاهب بعضها ببعض ليكون لكل مخرج مذهبه الخاص الذي يعتمد على ألوان جديدة من التعبير تميّزه كصانع محترف وليس كخالق مبتكر.

الملحمية، والتجربة البريختية

ومن التعبيرية ورحلتها الجمالية الطويلة يضع القلعه جي مرساته على شاطئ الملحمية وجماياتها الجديدة. لقد ظل المسرح خاضعا من الناحية الجمالية للموجهات الأرسطية التي بنيت على قاعدة أساسية قوامها الإيهامية والفردية. وظلَّ الجمال الأرسطي حادياً لمسيرة الفن والأدب قروناً حتى جاء بريخت ليكسر بجمالياته الجديدة عمود الخيمة الأرسطية مبشراً بموجهات (نقدية وجدلية) تتناقض مع الثوابت الأرسطية. يقول القلعه جي عنها أنها:

“تخرج بالعالم من الثبات إلى الحركة، أي أنها تدفع بالمرء إلى أن لا يقتصر على تفسير العالم، وإنما تجعل لزاماً عليه أن يعمل على تغييره”.

وهنا نجد قطبين مركزيين هما: العالم والإنسان. العالم محكوم جدليا بالتغير، والإنسان محكوم بجملة علاقاته وهي علاقات متغيرة ذات أشكال اغترابية غير ميؤوس منها لأيمان بريخت أن مسرحية الحاضر هي التي تدعو الى ذلك التغيير. فضلا عن استبدال بريخت للقدرية (المأساوية السوفوكلية) بالوعي الذي تصقله التجربة، وتنميه الصيغة التعليمية ليفضي بها الى الكوميديا.

إن نظرية بريخت الملحمية أعلنت عن انتهاء عصر المسرحية التراجيدية، وبدء عصر جديد متحرر من قيود الأرسطية. فاذا كانت المسرحية التراجيدية مبنية على أساس خلود التضحية الفردية ـــ بعد تطهرها من الإثم المهلك عاطفيا ـــ فان المسرحية الملحمية بنيت على أساس العقل المتحكم بعملية التغيير من خلال فهم الحاضر فهما منطقيا مستندا ديالكتيكياً على الفلسفة المادية التاريخية المؤسسة للجماليات الجديدة. فاذا كانت المثالية الفلسفية كما يقول القلعه جي تخلق وهما جمالياً وساحراً تدخل من خلاله الى التجربة الإنسانية الفردية، فأن المادية الفلسفية تخلق موقفاً جمالياً نقدياً من خلاله تتصل بالتجربة الإنسانية الجماعية. ولا يعني هذا أن الاشتغال على العقل ينئى بالمسرحية عن الترفيه والتسلية والعاطفية ذلك أن بريخت الذي بدا عقلانياً متشدداً ،أول الأمر، دعا الى الجمع بين العاطفة، والجمال، والعقل بعد أن لمس حجم الفشل في طرح عقيدته طرحاً مباشراً بعيداً عن الترفيه والإمتاع. وبهذا تكون الأولوية، عنده، في تبني الجماهير للموقف الإنتقادي التغييري العقلاني. أما المتعة العاطفية فانها تكون في خدمة ذلك الموقف.

في وقت مبكر من نشاطي المسرحي سئلت في لقاء صحفي ماذا يعني التغريب؟ قلت حينها ـــ ولا أتذكر الآن من أين استقيت هذه المفهومية للتغريب ـــ أن أكثر الأحداث ابتذالا تتخلص من رتابتها عندما تعرض عرضا خاصا تماما. واجد الآن انني استنادا الى منظري المدرسة الملحمية قد اقتربت بشكل كبير من مفهومه العام. لنتأمل مفهوم القلعه جي في الشرح الآتي أولاً:

“مفهوم التغريب لدى بريخت هو الخروج بالصورة المألوفية إلى الصورة الغريبية، بحيث ينتزع المتفرج من خدر العادي التوقعي والحتمي، لينبهه بقوة فيُصدم بالجديد المفاجئ اللاعادي واللاحتمي. وقد سبق للشاعر الإنكليزي تشيلي وآخرين بعده أن تحدثوا بأن وظيفة الشاعر هي أن يجعل قارئه ينظر إلى الحياة والناس والأشياء خارجاً عن إطارها العادي كما لو أنه يراها لأول مرة، ولعباس محمود العقاد محاولات شعرية للخروج بالمواقف والصور العادية إلى اللاعادي والمدهش”.

وهنا نجد تقارباً يؤكد على أن بريخت أخذ من الواقع صوراً ومواقف وأحداث عادية تماماً ثم أدخلها في مصفاة الملحمية ليستخرج خلاصتها أو عصارتها النقية فبدت على غير صورتها المألوفة أو لنقل مجازاً صورتها المغرّبة عن المألوف أو كما قال القلعه جي انها تبدو كما لو أن القاريء يراها لأول مرة.

الانعطافة التي أحدثها المسرح الملحمي تكمن في الإشتغال على ما هو عقلي بعد إزاحة ما هو عاطفي. وشحن المتفرج بالتفكير بدلا من شحنه بالعواطف التي لا يتوقف سيلها طوال زمن العرض المسرحي ولما لم يستطع بريخت تنحية العواطف جانبا لذا فانه اشتغل على ايقاف سيلها ودفقه المستمر بالقطع المتكرر ليعود بالمتفرج الى عقله وليستطيع بعد القطع الحكم على مجريات الحدث المعروض. بمعنى آخر أن بريخت يضع الحدث أو الموقف أو الانسان تحت إضاءة جديدة ضمن علاقات جديدة. ينقل لنا القلعه جي عن بريخت ما يأتي:

“أن المرء يصبح مغرَّباً عن أمه عندما تتزوج ثانية، ومثل هذه الحركة توفر فسحة كبرى للتفكير والمحاكمة، وتقدم صورة لكليات الأشياء بما يتفق وحركة الفكر الإنساني في استمرارية ملحمة الوجود في حركته الجدلية عبر الأبعاد الزمنية، ولهذا كانت الوسيلة الفضلى للتغريب هي أسلوب الحكاية الذي يؤكد باستمرار على الانفصال بين المتفرج وزمن الحدث، وبذلك يمنع المتفرج بحركة قسرية من الاندماج الزمني والتوحد بالشخصية المسرحية أو الحدث”.

وباختصار شديد جداً فان بريخت ينقل “المتفرج من موقع الإنفعالية إلى موقع الفاعلية، ومن حزن وطرب الترفيه إلى يقظة وفهم التعليم” ويتم ذلك بأساليب القطع التي اعتمدها بريخت وشكلت أسساً فعالة في إيقاف الاندماج أو التقمص أثناء عملية التمثيل.

المسرح التسجيلي

ولم يكن المسرح الملحمي ذو حدود تفصله عن بقية الأجناس المسرحية أو تلغي قرابته منها فالمسرح التسجيلي استعان ــ على سبيل المثال ـــ بإمكانيات المسرح الملحمي ليختط له اسلوباً تجريبياً جديداً على يد الكتّاب الألمان: هانياركيبارد، وجنتر جراس، ومارتن فالزر، وأخيرا بيتر فايس الذي أعطى هذا المسرح شكله النهائي.

إن المسرح التسجيلي اصدم كما هو حال المسرح التشيخوفي التجريبي بصخرة الإنتقاد الرافض للجديد على أيدي الناشرين حين امتنعوا عن نشر مسرحية (النائب) للكاتب الألماني هوخهوت متحججين بكونها ليست من الدراما حتى جاء المبدع الكبير بيسكاتور ليضع النقاط على الحروف ويعتبر أن مسرحاً كهذا هو الذي كافح من اجله أكثر من ثلاثين عاماً.

ولما كانت الظروف التي يمر بها العرب ليست بأحسن حالاً من اوربا سياسياً لذا فقد رأى بعض الكتاب وفي طليعتهم الكاتب المصري المجهول حسن مرعي ضرورة تبني هذا المسرح فكتب مسرحية (الأزهر وقضية حمادة باشا) والتي ينقل لنا القلعه جي عنها قائلاً:

“تتحدث المسرحية عن اعتصام طلاب الأزهر وثورتهم من أجل إلغاء قانون عام 1908 الذي كان يهدف إلى تغيير بعض المناهج الدراسية وإضافة مناهج عصرية. وكان هذا التغيير يهدف إلى تطوير الأزهر علمياً في الظاهر وتقليل أهميته الدينية والتعليمية وإضعاف أثره الاجتماعي في الباطن لكنّ الطلاب رفضوا هذا المخطط، فاعتصموا ورفضوا تلقّي الدروس، وبالرغم من أن السلطة الممثلة بحمادة باشا الذي عرف بأنه جلاد الخديوي اتخذت إجراءات صارمة لإنهاء الاعتصام بقطع الرواتب عنهم ومحاصرة الأزهر بالعساكر والقبض على بعضهم إلا أنهم استمروا بالاعتصام حتى رضخت السلطة لمطالبهم وألغي قانون الأزهر الجديد”.

في هذه المسرحية توفرت المعايير التي حددها النقاد للمسرح التسجيلي ومنها: الوثائق الصحفية والرسمية، والخطب، والمحاضر، والاجتماعات، والتصريحات السياسية والرسمية ولهذا يطلق عليه أحياناً (المسرح الوثائقي) وهذه الوثائق كلها كان فايس قد حددها في كتابته عن (المسرج التسجيلي) عام 1967. ينقل لنا الاستاذ القلعه جي عن بيتر فايس ما يأتي:

“تشكل السجلات والمحاضر والرسائل والبيانات الإحصائية ونشرات البورصات والتقارير السنوية للبنوك والشركات الصناعية، والبيانات الحكومية الرسمية، والخطب والمقالات والتصريحات التي تدلي بها الشخصيات الرسمية، والريبورتاجات الصحفية والإذاعية ، والأفلام والصور، وجميع الشواهد المتعددة للعصر” أساس العرض المسرحي. كما يحصر فايس مهمة المسرح التسجيلي في الوقوف ضد طمس الحقائق، والعمل على الوصول اليها وعرضها بشكل فني يتيح للمشاهد الحكم عليها. فهو مسرح يسخِّر قدراته لخدمة الإنسان وإدانة من يعمل على اذلاله أو قمعه تحت أي مسمى من مسميات الديماغوغية.

ومن المهم هنا الاشارة الى أن القلعه جي تناول عدداً من النماذج المهمة في هذا المسرح ومنها مسرحية (أنغولا أو غول لوزيتيانا) ومسرحية (مارا-صاد) لبيتر فايس، ومسرحية (الناووس أو التابوت الحجري) لفلاجيمير جوبريفالناووس، ومسرحية (افتتاحيات الهاديء) لجون ويدمان، ومسرحية (يو- إس: نحن والولايات المتحدة) من اعداد فرقة شكسبير واخراج بيتر بروك.

اللامعقول عربياً والمسرح الطليعي

في لا معقولية الوضع الإنساني يبدأ القلعه جي بحثه في اللامقول كظاهرة اجتماعية عربية لم تستطع التحول الى المسرح بسبب الاحباطات الكثيرة التي تغلف اللاوعي مكبلة ومانعة إياها من الظهور، ويوضح تلك الظاهرة الاجتماعية والشعبية من خلال أربعة أجناس تعبر بشكل مدهش فيه من الغرابة قدر ما فيه من متعة الوصول الى الغاية الخفية وهي:

اولاً. أغاني الأطفال الفلكلورية التي اعتمدت العبث اللفظي، وتداعياته التي يفرضها الايقاع والفواصل، وجاءت بما هو مدهش وغريب، وبفوضى من الكلمات الضاربة في عمق اللاوعي البريء. ويذكر القلعه جي أنموذجين من تلك الأغاني المتداولة في سوريا: أغنية (يا حاج محمد)، وأغنية (يا شميسه اطلعي لي) ومن مصر أغنية (يا طالع الشجرة) ويمكن ان نضيف اليها عددا من امثال تلك الأغاني في العراق مثل أغنية (ياخشيبه نودي نودي) التي استثمرها المبدع المسرحي يوسف العاني في عمل ملحمي كبير تحت عنوان (المفتاح) وأغنية (طلعت الشميسه)، وأغنية (غزاله غزَّلوكي)..الخ.

ثانيا. الحكايات الشعبية التي يتناقلها العامة مثل حكاية (البغلة الزرزورية)، وحكاية (قبة دانيال) التي يروى أن أربعة فقط هم الذين ظهرت القبة لهم. وحدث ان رماهم الملك في بركة القصر فاختفوا ليظهر ثلاثة منهم في حلب وهم السهروردي والنسيمي والسلاخ بينما ظهر الرابع في بغداد وهو الحلاج ثم أنهم استمروا برواية الأسرار فحكم عليهم جميعا بالموت.

ثالثاً. السير الشعبية المكتوبة مثل بعض حكايات الف ليلة وليلة، والزير سالم، والزناتي خليفة، وابو زيد الهلالي، وحمزة البهلوان.

رابعاً. الممارسات الطقوسية كحلقات الذكر (الدروشه) وما يقوم به البراهمة، وفقراء الهنود، والرجال الصالحون من سير على الماء، وعلى الجمر، والمكوث تحت الماء طويلاً، أو السفر اللحظوي من بين الأطار البعيدة، أو مغادرة الروح للجسد للقيام بمهمة ما ثم عودتها ثانية..الخ..

إذا أعدنا النظر في كل الأمثلة السابقة والأمثلة الكثيرة التي لم نشر اليها فأننا نصل الى حقيقة كونها جميعا اشتغلت على المبالغة، والخوارق، واللامعقول. الا اننا انتظرنا طويلا حتى وفد الينا اللامعقول من أوربا ما بعد الكوارث الكونية على هيئته التي عرف بها كمذهب له أصوله وأسسه. أما عن التقاء الوجوديين بالطليعيين فيحدده القلعه جي في ثلاث نقاط:

1. العبث أو غير المعقول هو نسيج حياة الإنسان، فالمرء يعيش في فراغ يهدده العدم، وحياة الإنسان ليس لها غرض مطلق.

2. الإنسان في عزلة لأنه من الممكن أن تتجمد اللغة وتشل أفكارنا، وهكذا يصبح كل منا في عزلة عن الآخر.

3. الأشياء من حولنا، وتعددها، تدعو إلى الغثيان لأنها تحد من حريتنا.

لم تكتمل ملامح المسرح الطليعي الا بعد عام 1950 العام الذي عرضت فيه مسرحية (المغنية الصلعاء) ليوجين يونسكو ثم توطدت دعائمه بعد عرض مسرحية صموئيل بيكت (في انتظار غودو) وهي من اشهر ما أنتجه المسرح الطليعي. أما تسمياته المتعددة مثل: (مسرح اللامعقول)، و(مسرح العبث)، والمسرح الطليعي)، والمسرح الحديث)، و(المسرح التجريبي) فأنها جميعا تشير الى حالته التي تتضمن على هذه وتلك من الوظائف وعلى فئة واخرى من المنظرين والمبدعين. فتسمية العبث جاءت جراء الاعمال الطليعية التي كتبت تحت تأثير الفكر الوجودي ولذلك فأن هذه الأعمال لا ينبغي تعميمها على المذهب الطليعي. ويعتقد القلعه جي أن تسمية المسرح الطليعي (ربما) هي الأكثر صوابا، والأكثر تمثيلا لجوهر هذا المسرح فكما “الكتيبة المتقدمة في الجيش، والتي لها حرية التحرك والعمل ببداهة” فان للمسرح الطليعي حرية التحرك والعمل ببداهة أيضاً. واذا كان القلعه جي قد رجح التسمية المحتملة بـ(ربما) فاننا نؤكد عليها ونطالب باستخدامها بدلا من (المسرح الحديث) لأنها تسمية شاملة، وبدلا من (المسرح التجريبي) لعدم اقتصار التجريب عليه، ونستبعد تسمية (العبث) لأنها لا تصح على كل الاعمال الطليعية كما أشار القلعه جي الى ذلك. إن القلعه جي في بحثه ضمن دائرة المسرح الطليعي يحدد مفهومه لهذا المسرح ووظائفه الأساسية ومعالمه العامة من خلال أبرز، وأنضج، وأشهر النماذج الطليعية حيث يقول مختزلا ومكثفا ما يأتي:

“مسرح اللامعقول يسخر بعنف من عبثية الحياة المفعمة بالزيف والكذب، وهو يكشف ما يخفيه البشر من حيوانية مخيفة وراء أحاديثهم المنمقة، وهو يقرر أيضاً لا معقولية الوضع الإنساني بشكل عام، فلو جردنا الإنسان من اهتماماته الحاضرة الجزئية، من ثيابه اليومية الزائفة، ونظرنا إليه نظرة متعمقة لوجدناه كائناً يقلقه الانتظار في ” انتظار غودو” لبيكيت أو يتوق إلى الرحيل ولا يرحل في “لعبة النهاية”، أو يتعبه الفرار من الموت في ” القاتل بلا أجر” ليونسكو، أو يهرب من الحقيقة في ” الخادمتان” لجان جينيه، أو أسير قيود يحس بالجدب والإخفاق والعزلة والشيخوخة المخيفة في ” البينغ بونغ” لأداموف أو غير قادر على التجاوب والاتصال بالآخرين في” الغزو”، أو كائناً يحس بالغربة والحصار والعزلة يفصله عن الناس حائط وهمي-طبقي فإذا حاول تحطيمه تلقى بصدره المطواة.. هذا في “قصة حديقة الحيوان” لأدوارد إلبي، لكن الإنسان عند جورج شحادة يتمتع بقدر كبير من البراءة، وهذه البراءة تدفعه إلى الموت وعلى شفتيه ابتسامة هادئة، فالموت لا يخيف لأنه حركة في حياة إنسانية طويلة تختزن الفرح.”

معالم المسرح الطليعي

وعلى الرغم من تأكيد القلعه جي على هذه المعالم الا انه يعتقد ان لا معالم ثابتة للمسرح الطليعي لأنه يجدد نفسه على الدوام وان وجوده كامن في تجدده ولكنه هنا يلقي الضوء على بعض تلك المعالم التي يمكن إدراج أهمها فيما يأتي:

1. اعتمد الطليعيون على الحلم أسلوباً للوصول إلى حقائق لا نصل إليها في اليقظة، فهم يحطمون جدار الواقع ويقضون على المنطقية الزائفة التي نعيشها حتى لتبدو الأمور وكأنها في فوضى شاملة.

2. هذا الأسلوب دعاهم إلى تفكيك كل ما هو مركّب ليصلوا إلى نوع من اللامنطقية والانحلال، ففي ” البينغ بونغ” لأداموف تحس بأن الأشياء مفككة تفكيكاً عجيباً، أما عند يونسكو فيظهر التفكك في الألفاظ، وعند بيكيت في العلاقات الإنسانية.

3. ثمة تأكيد على إغفال التشبه بالواقع في رسم الشخصيات والمناظر والأحداث. في مسرحية “جاك” ليونسكو نجد روبرت عروس جاك تكشف عن وجهها فإذا هي بثلاثة أنوف.

4. لقد تحطم نموذج الشخصية بمعناه التقليدي، وليس الطليعة أول من فعل ذلك فقد سبقهم بيرانديللو وبريشت، والشخصية تتشكل من خلال الصيرورة لا من خلال الكينونة، فهي أبعد ما تكون عن الشخصيات النمطية في المسرح الكلاسيكي، إنها تبحث عن هويتها، ومن خلال التشويه الحاصل عليها تبدو أداة حادة للتعبير عن أفكار الكاتب.

5. اختفى من المسرحية الطليعية الخط البياني في الحبكة، من عرض أحداث وشخصيات فتأزيم فحل، وبدت أغلب هذه المسرحيات وليس فيها حادثة معينة تقع، ولا عقدة تتولد، وإذا كانت بعض الشخصيات تعيش أزمة فهي أزمة فلسفية.

6. ليس من الضروري الإشارة إلى تحطم وحدتي الزمان والمكان فقد حدث هذا قبل دعوة الطليعيين، ولكن من المناسب أن نشير إلى أن الكثير من أعمالهم كانت منفلتة من أسر الزمان والمكان، أو أنها تجري في أمكنة غريبة غير محددة، فالزمن هو زمن الحلم، والمكان هو أرض الحلم.

7. الإحساس بالعزلة والقلق الوجودي يسيطران على تحرك الشخصيات.

8. العبث هو نسيج حياة الإنسان، نحن نعيش حياة لا معنى لها، يحدها الموت من كل جانب، والكاتب الطليعي يفضح عبثية الحياة ويسخر منها.

9. والمعرفة التي يقدمها مسرح الطليعة للوجود هي معرفة حدسية، فكاتب اللامعقول يتحاشى المنطق المتعارف عليه لأنه يؤدي إلى معرفة جزئية، أي أن المسرح الطليعي هو مسرح الحقيقة التي تنطلق من الذات، أما التقليدي فهو مسرح الحقيقة التي تنطلق من الاستقراء الخارجي للأشياء، ولهذا نجد هذا المسرح يخطو لا على أساس مناقشات ذهنية منطقية أو فلسفية، وإنما على ضوء صور شعرية، فهو أبعد ما يكون عن الوعظ والإرشاد.

10. الإحساس بعبثية الحياة، وإدراك الوجود إدراكاً حدسياً وجه الطليعيين إلى التأليف الدائري، فالمتفرج يشعر بأن الكاتب يرسم دائرة تحاصره وتنغلق عليه وعلى الحياة كلها.

11. صحيح أن الكوميديا في المسرح الطليعي سوداء، إلا أن أعماله لا تعكس يأساً بالضرورة كما يعتقد بعضهم، إنه يكشف الستر عن مفاهيم خاطئة، ويقول شيئاً أساسياً وكبيراً.

12. كتّاب الطليعة جماعة من مغامري الفكر، مسرحياتهم أخذت تتنفس على المسارح الصغيرة، في هذه القاعات تعرَّف الجمهور على يونسكو وبيكيت، وكان الستار يرفع أمام اثني عشر متفرجاً عندما كانت مسرحية الكراسي تقدم، ينسحب منهم ستة أو أكثر تُردُّ لهم أثمان البطاقات.

ما بعد الحداثة

ينتقل بنا عبد الفتاح رواس قلعه جي الى موضوعة حيوية ما يزال النقاش يدور حول آلياتها، وكيفياتها، وعناصرها، ومميزاتها ألا وهي موضوعة ما بعد الحداثة التي شغلت المشتغلون في قطاع المسرح على امتداد الوطن العربي فقدموا فهماً لها يتماشى وتطلعهم المشروع الى التجديد، والإبتكار، وإرساء مفهوم جديد للمسرح العربي. ولكنهم في الأعم الأغلب لم يستطيعوا تحقيق شيء جوهري يتخطى التجارب الغربية، ويؤصلن التجربة المحلية وهكذا ظلّوا يلهثون وراء المدهش، والاستفزازي، والمثير، والجديد من دون أن يحققوا شيئاً ملموساً على صعيد الواقع المسرحي أو الحركة المسرحية مع استثناءات قليلة هنا أو هناك. ولا بد لنا ونحن نطرح هذه الموضوعة المهمة من بيان الفرق الجوهري بينها وبين سابقة لها موضوعة الحداثة. فاذا كانت الحداثة قد اشتغلت على أساس مركزية الإنسان كبديل لمركزية الإله التي استندت عليها كل التيارات السابقة فان تيار ما بعد الحداثة اشتغل على تهديم المركزيات، والدعوة الى اللامبالاة، والى نبذ المقولات والمفاهيم الكبرى مثل: الإنسانية، والدين، والأخلاق، والوطنية، والحب، والمرجعيات، وما شاكل ذلك. ويذكر القلعه جي خصائص هذا التيار بتكثيف كبير فيذكر أنها تشتمل على:

“التشكيك في السرديات الكبرى، وإلغاء التاريخ والخصوصية الثقافية والبناء الدرامي السردي، وموت الشخصية وإلغاء الحبكة المسرحية، والاعتماد في العرض على الموسيقا والمؤثرات الصوتية والصور المرئية من مختلف وسائل الاتصال، وهي تخلط في عروضها المسرحية بين الأجناس الأدبية والفنية والتعبيرية حيث نجد في العرض الواحد الحوار والغناء والموسيقى والقصة والقصيدة والرسم والنحت، وإحالات إلى نصوص متعددة، ومن هذا التشظّي تتشكل توليفة مسرحية.”

وتطول فوضى ما بعد الحداثة العناصر المسرحية كلّها مثل الديكور والسينوغرافيا لتفعيل الفوضى البصرية القصدية واللاانسجام، واسقاط الهوية الموحدة، وتحرير الطاقة الجنسية، وصار هدف المشتغلين في المسرح إيجاد مكان مسرحي خارج المكان التقليدي منذ ستينات القرن الماضي. ومن اشكال هذا المسرح:

أولاًــ مسرح الحدث التجريبي

ومن رجالات هذا المسرح الذين عملوا ضمن هذا التيار المابعد حداثوي الكاتب البولندي تادووش كانتور والذي اطلق على مسرحه (مسرح الحدث التجريبي) الذي يقوم على تدمير “الثيمات والقوالب الجاهزة لأنساق الإبداع وبرمجة العمل الفني وحتى رفض الاحتراف المهني في الفن، وعلى هذا التدمير لمفردات العرض المسرحي يبني كانتور مسرحه التجريبي”

ثانياًــ مسرح الصورة

ومن المسارح التي مثلت تيار ما بعد الحداثة مسرح االصور (THE THEATER OF IMAGES) وفيه يتم التأكيد على البعد الكيفي من فنون تشكيلية كالرسم والنحت بالغة الأهمية في السرد. يقول القلعه جي:

“أما الكلمة فتلعب دوراً في فك شيفرات العرض الصورية” ويستنتج القلعه جي قائلاً: “بما أن هذه الفنون لازمانية فإن مسرح الصور لازماني، في حين يسود في هذا المسرح البعد المكاني والتجربة الحسية، وبالتالي فإن مسرح الصور هو مسرح تجريدي غير أنه يؤنسن الأشياء، وهو مسرح ساكن غير متحرك يعتمد على مشاهِد يمارس الاستغراق الذهني في فهم وربط الأفكار والرموز. وكان من الطبيعي أن تكون أمريكا وهي المجتمع التقني والذي تسود فيه المؤثرات البصرية والسمعية هي المنتِج لهذا النوع من المسرح الذي خلقه جيل مبدع شبَّ على السينما والتلفاز.”

ومن المخرجين العرب الذين اشتغلوا على مسرح الصور المخرج العراقي صلاح القصب والذي قدم عددا من العروض الصورية مع بيانات ملتبسة عن ذلك المسرح الذي عمد الى تدمير النص وبنائه صورياً حتى أن مترجما لأغلب أعمال شكسبير الى العربية هو جبرا ابراهيم جبرا خرج من عرض صوري لاحدى مسرحيات شكسبير (مكبث) قائلا “هذا ليس شكسبير”. وبعد عدد من المسرحيات التي قدمها القصب صار أغلب الشباب المسرحي يتحدث أو يكتب عن مسرح الصورة. ولم نشاهد عرضا للقصب بعد ربما بسبب صحته أو أي سبب آخر. وفي منتصف السبعينات برز الفنان توفيق الجبالي وجماعته وقدموا عروضاً صورية وهم ما زالوا يتصدرون المشهد المسرحي.

ثالثاًــ مسرح الحياة

اما المسرح الحي أو كما يطلق عليه مسرح الحياة فقد بدأ بتأسيس شركة له عام 1947 في نيويورك عملت هذه الشركة على تقديم عروض مناهضة لقرارات الدولة، وداعية الى التظاهر والثورة على النظام وقد برز هذا المسرح إثر تظاهرة قامت ضد التجارب النووية الذي كان قد أقرها الرئيس الأمريكي جون كندي وقمعت قمعا بوليسيا. ركز هذا التيار على الفكر التحرري أو الفوضوي، واستطاع أن يفجر طاقات الشباب، وقدراتهم، ومواهبهم من دون استخدام الديكور أو الاكسسوار فقد ركز على الفعل الجسدي ومنحه أولوية في التعبير كما جسد رغبة الممثل أو الممثلين في أن يكونوا هم موضوع عرضهم المسرحي حد المزج بين الحياة والمسرح. ولم يستمر هذا المسرح طويلا على الرغم من شهرة بعض عروضه وتمت مضايقته رسميا،ً وملاحقته ضريبياً، وقضائياً.

رابعاًــ مسرح المضطهدين

ومن المسارح التي برزت ضمن تيار ما بعد الحداثة (مسرح المضطهدين) الذي ظهر وانتشر على يدي الكاتب والمخرج البرازيلي أوجستو بوال والذي كتب رسالة يوم المسرح العالمي عام 2009 بتكليف من الهيئة الدولية للمسرح تكريما لجهوده في ترسيخ هذا المسرح والذي اشتغل على بلورته منذ عمله الأول في خمسينات القرن المنصرم وحتى آخر عمل له. ويعد كتابه (مسرح المضطهدين) المطبوع عام 1974 الجامع الكبير لتعاليم ورؤية بوال لهذا المسرح. الكتاب تحدث أكد على قدرة مسرح المضطهدين على تحول المشاهد من مشاهد سلبي الى مشاهد فاعل والى تحول المضطهدين الى ثوار ومن ثم نبذ الاذعان للفئة الحاكمة كما وضع بديلا للمسرح السياسي والدعوة الى المسرح كسياسة حسب. ويذكر القلعه جي في معرض تناوله لهذا المسرح أن من أتباع هذا المسرح عربياً الكاتبة والمخرجة المصرية نورا أمين التي تلقت تدريباتها على يد أغستو بوال في البرازيل وبعد عودتها الى مصر بادرت الى تأسيس مسرح المضطهدين في القاهرة. يقول القلعه جي أنها: ” وعلى مدى 17 عاما آمنت نورا أمين بأن مسرح المقهورين هو وسيلة شعبية لمواجهة الصراعات السياسية والقضايا الاجتماعية في بلادها”.

خامساًــ الرقص الدرامي

ومما امتازت به نشاطات ما بعد الحداثة الاشتغال على الجسد كلغة بديلة عن لغة النص الملفوظة وتحول الرقص الترفيهي، والرقص الحديث، والرقص الاستعراضي.. إلخ الى رقص درامي وجدت من الأهمية بمكان تثبيت هذه التسمية لتمثيلها حالة الرقص المبتكر، والمستند على الدراما بشكل كبير بدلاً من تسميته بالرقص الحديث، أو كيروگراف، أو المسرح الراقص أو المسرح الحركي.. الخ. إن الجسد في هذا المسرح يشتغل على ملء الفضاء المسرحي ورسم الصور المتتابعة التي تشكل بمجموعها معنى ما أو فكرة يراد التعبير عنها عن طريق تحرير طاقة الجسم الكامنة. يهدف هذا الفن الى طرح شكل جديد تجريبي مستقبلي يرتكز على وحدتي العقل والبدن وقدرتهما على انتاج لغة واحدة مشتركة مبنية على كم من الإشارات والإيماءات والحركات المتناسقة، والمتسقة في نظام ترتيبي أساسه القص واللصق (كولاج) يختزل مساحة اللغة الصائتة ويوسع رقعة المعنى. يقول القلعه جي:

“وإذ يتمحور هذا المسرح حول تحرير الجسد فانه يطرح على المتفرج شكلا جديداً لا يعتمد على السرد القائم على التسلسل المنطقي للأحداث بل يعتمد شكلا من اشكال “الكولاج” (Collage) (القص واللصق) لنماذج وأنماط اجتماعية يقدمها بأسلوب ساخر Sarcastic)) ويفرض على المتلقي نوعاً جديداً قائما على ايجاد العلاقة بين النماذج والانماط المعروضة والواقع الذي يتم التعبير عنه بشكل غاضب وساخر”.

وشأن هذا المسرح عربياً كشأن غيره من الأجناس الفنية فقد نقلت التجربة إلينا من خلال الفرق التي شكلت لهذا الغرض. ومن خلال متابعتي لها وجدت انها بدأت في العراق على يد الفنان المغترب طلعت السماوي وفي دمشق على يد الفنان معتز ملاطيه لي ثم وصلت التجربة الى مصر والخليج العربي.

سادساًــ المسرحيات الصوامت

ومن أجناس ما بعد الحداثة ظهور تيار مسرحي اشتغل على لغة الجسد في أعمال مسرحية أطلق عليها (المسرحيات الصوامت) تمييزا لها عن التمثيل الصامت (البانتومايم) ولما كان كاتب هذه السطور هو من أرسى دعائم هذا المسرح فسأكتفي هنا ببعض ما ذكره القلعه جي عن هذا المسرح إذ يقول:

“ليس المسرح الصامت بدعة وإنما هو مؤسس على سابق له هو البانتونايم ولكن هذا يشكل على الأغلب حالة مسرحية فردية بمعنى أنه بمثابة المونودراما في مسرح الكلام ، أما المسرح الصامت الذي يقدمه الأنباري من خلال نصوصه التطبيقية أو توصيفه النظري فهو مسرح جماعي، شأن المسرح الجماعي في مسرح الكلام، يشترك فيه ما يقتضيه العرض من الممثلين، ويُسند فيه التعبير ليس إلى المسرد الكلامي الملفوظ وإنما إلى المسرد الحركي وما يتبعه من تشكيلات وتكوينات جسدية فردية أو جماعية، أو حركة مجموعات، فهو مسرح بصري يضج بالكلام ولكن من غير كلام، وميزة هذه العروض الصامتة أنها تستطيع أن تتجاوز مشكلة اللغة، فقد بقيت حواجز اللغة أمراً مشكلاً في المسرح بين الأمم والشعوب، ولهذا جاء المسرح الصامت ليستبدلها بلغة الجسد والإشارة وهي لغة إنسانية مشتركة أكثر سهولة وجمالاً وإدهاشاً وتحفيزاً للخيال عند المتفرج وذلك من خلال السرد الحركي والبصري والاهتمام الفائق بمكونات العرض البصرية والسمعية في إطار سينوغرافيا متقنة ودالة. مثل هذا التقاطع والافتراق بين النوعين : الصامت والبانتومايم، نجده أيضاً بين المسرح الصامت وبين المسرح الحركي والراقص، فهو يستفيد منهما ويفترق عنهما، وبالرغم من أن استخدام الجسد الإنساني كلغة موازية أو بديلة، والتشكيل به، والتعبير بوساطته، يجمع بين الأنواع الثلاثة إلا أن كلاً منهم يتعامل مع الجسد بشكل يختلف عن الآخر، فالأولوية في المسرح الصامت ليس لاستعراض جماليات الجسد واستنطاقه وإنما الأولوية للموضوع الذي تقدمه قصة المسرحية أو فكرتها أو لوحاتها والتي يكون حاملها على الخشبة هو مجموعة الممثلين بأجسادهم وخطواتهم وحركاتهم المرسومة بعناية فائقة بشكل معادل لمجريات الأحداث، ومن خلال ميزانسين عام ، بالإضافة إلى دعم المجهود التعبيري والسردي بعناصر العرض الأخرى من ملابس وديكور وإضاءة وموسيقى ومؤثرات صوتية، وبذلك يكون المسرح الصامت في المحصلة فناً بصرياً بامتياز يزخر بالدالاّت والمدلولات ، وبالعناصر الإشارية

ورغبة من الأنباري في ألا تكون هذه النصوص الصامتة مقتصرة في حياتها على الخشبة فقد عمل على فكرة تأليف مسرحيات صامتة قابلة للقراءة، يمكن أن تجنس أدبياً مستشهداً بمسرحية “فصل بلا كلمات” لبيكيت، بحيث يجد قارئها أنه أمام قصة قصيرة تستوجب منه المتابعة والتخيل البصري، ولكنه يرى أن أياً من الكتاب المسرحيين لم يكمل بشكل واضح وجلي ما بدأه بيكيت ولا حتى بيكيت نفسه. وظلت المسرحية الصامتة رهينة الخشبة.

يحتاج المسرح الصامت من كاتبه إلى مخيال واسع وناصع، وقدرة على تحويل المدلولات من حواملها الكلامية –اللفظية- إلى حواملها الحركية والجسدية والتشكيلية، كما يحتاج إلى وضع معالم طريق للفكرة أو اللوحة أو القصة مؤسسة على تلك الحوامل لئلا يسقط النص أو العرض في الإبهام، ويكون في الوقت نفسه محافظاً على جماليات الغموض الفني”.

سابعاًــ المسرح الرقمي

في مجال ما أطلق عليه المسرح الرقمي، أو التفاعلي، أو الديجيتال، أو المسرح الإفتراضي يذكر لنا القلعه جي أن هذا المسرح جاء ضمن سيل التجريب الجارف الذي لم يتوقف عند حد معين. ومع أن التجارب الكثيرة والمحاولات التجريبية الهائلة إلتزمت بمكان المسرح (الخشبة أو الطبيعة) إلا أن التجربة الجديدة غادرتهما الى بيئة جديدة هي شاشة المونيتر. وافترضت وجود جمهور يشارك في العملية الانتاجية ويضرب لنا مثالا على ذلك ما قام به د. حازم كمال الدين وصديقه د.تشارلز ديمر وبمشاركة د. محمد حسين حبيب والكاتب سرمد السرمدي. وقد قيض لي الاطلاع على جزء من هذه الفعالية. ووجدت أن من الضروري البحث عن تسمية جديدة لهذا النشاط الضعيف الصلة بالمسرح من قبيل (فعالية افتراضية) أو (نشاط افتراضي) أو (لقاءات رقمية).. الخ. ان صلة الوصل بين هذا النشاط والمسرح هي كون القائمين به من الوسط المسرحي. ولم نشاهد تجربة أخرى أو ان فريق العمل لم يقم بتجربة أخرى تدعم ما تحقق في التجربة الأولى على الرغم من سعي د. محمد حسين حبيب التنظيرية في هذا المجال. اما في الرواية فقد استطاع محمد سناجلة تحقيق نجاح أكبر في روايته (شات) والتي يبدو لي أنها مهيئة أكثر من المسرحية لاستيعاب الشكل الجديد. ويمكن للقاريء العزيز الرجوع الى ما كتبناه حول هذه الرواية في موقعي الشخصي تحت عنوان (الروابط والرموز الأيقونية في رواية محمد سناجلة (شات CHAT). وامعانا في رقمية هذه الرواية الجديدة فقد اختار سناجلة عنونتها من مبتكرات الشبكة العنكبوتية (CHAT) هذا فضلا عن استخدامه للروابط والأيقونات التي ارتبطت بالرواية برباط متين دعم المحسوس فيها بالإفتراضي. يقول القلعه جي مستنتجاً في خاتمة بحثه هذا:

“لاشك أنه لا يستطيع أحد، وليس من المفترض، أن يقف في وجه إنجاز وتطوير مثل هذه التجارب التي تستفيد إلى أقصى حد من التقدم التكنولوجي، وهي إثراء للفن نفسه، مثلما اندفع المسرح في مسارات التجريب وما بعد التجريب حتى كادت تخرج من خانة هذا الفن.

لكن المسرح: النص والعرض والممثل، سيبقى، ما بقي شرط الاجتماع وما يحمله من تفاعل حي، صفةً ملازمة للإنسانية. وهذا هو المسرح الحقيقي بدمه ولحمه وشحمه، أما هذه الولائد الإلكترونية فسمها ما شئت ، واحتفِ بها كما تريد، ولكن لا تسمها مسرحاً”.

ثامناًــ الأبرا والأوبريت

أخيرا يتناول القلعه جي الأوبرا والأوبريت مستعرضا تاريخهما منذ النشأة في ايطاليا وانتهاءً بالاوبريتات العربية وبعض التغييرات التي طرأت عليها فضلا عن استذكاره لفرقة اوبرا بكين التي شهد لها عرضا من عروضها يوم حلّ ببكين ضيفاً مع نخبة من اعضاء اتحاد الكتاب العرب. ومع أن الأوبريت العربي بدأ مع الرواد الأوائل للمسرح العربي إلا أن تطوره لم يجاري تطور المسرح بصيغته التقليدية، ويرجع القلعه جي ذلك:

“إلى تكاليفها المرتفعة، ومتطلباتها من التأليف والتلحين والأصوات القديرة، ثم إلى وفود الاتجاهات التجريبية الحديثة على المسرح العربي، وأخيراً إلى انشغال المسرحيين بالراهن السياسي والاجتماعي بعد أن أصبح الوجود العربي مهدداً بالأخطار”

إن كتاب (المسرح الحديث) قدم لقارئه عرضاً لتاريخ الحداثة المسرحية وتأكيدا لعملية التجريب والتجديد التي تزامنت مع المسرح منذ نشأته الأولى واستمرت حتى يومنا هذا باشكال وصيغ مختلفة وكثيرة، وأن هذا العرض الإستقرائي ليس بديلاً موضوعياً عن الكتاب بل هو في أحسن أحواله لا يتعدى أن يكون اقتناصاً لجوهر الأفكار التي وردت على لسان الكاتب التجريبي، والمنظر المسرحي عبد الفتاح رواس قلعه جي.

اظهر المزيد

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى